إنّها المخاطر.. قدرُ المختارة التاريخي من كمال جنبلاط إلى تيمور جنبلاط

12 أيار 2023 12:19:03

أربعة وسبعون عاماً مضت من عمر الحزب التقدمي الإشتراكي، ومازال كما يومه الأول مالئ الدنيا وشاغل الناس، من البرلمان حيث "جبهة النضال الوطني" وزعيمها كمال جنبلاط،  إلى الشارع في مقدمة الصفوف في النضالات الديمقراطية المطلبية، ومن الكوفية العربية في ثورة 58، ثمّ الفلسطينية بعد أن غدا  لبنان منفاها وملجؤها الوحيد، وصولاً إلى جيش التحرير الشعبي  عندما اضطره الحال للدفاع عن عروبة لبنان. كان الحزب عبر محطاته رأس الحربة، بل وأحياناً الرمح كلّه،  وفي كل محطاته كان هو عمود الخيمة التي استظلت بها "الحركة الوطنية اللبنانية"، والثورة الفلسطينية فيما بعد، ثم الجسر للمقاومين إلى بيروت والجنوب. 

اخترق الحزب سجن الطائفة منذ لحظة تأسيسه، واكتسب زخمه مع التفاف الناس حوله كاسراً القوالب الإقطاعية التي كانت تُسيّر الناس قطعاناً من الطوائف هنا، أو عشائر من هناك
 وفي مكان آخر قفز فوق الإقليمية الضيّقة إلى رحاب العالمية، حيث "الإشتراكية الدولية"، وغدا على الساحة العربية أحد أركان حركة التحرّر العربي في مواجهة الأحلاف والاستعمار القديم. 

 اعترف أنني في مرحلة شبابي الأولى لم أفهم كمال جنبلاط  واكتفيت بأن أحبّه كحليف وصديق لجمال عبد الناصر، لكن الحال أخذ منحى آخر فيما بعد، وكان اختياراً منّي جاء بحكم التجارب التي صقلت عقولنا.

 كان كتابه "نحو اشتراكية أكثر إنسانية" أحد أهم معالم فكره، وفيه حاول اختراق الصورة النمطية التي انطبعت في عقول النُخب العربية ممن تبنّت الخط الإشتراكي، والتي كانت في جذرها تتمحور حول النموذج السوفييتي بشكلٍ أو بآخر؛ نموذجٌ اقتصرت رؤيته للعدالة على البُعد المادي بمعناه الضيّق على حساب البُعد الإنساني بمعناه الرحب، وحيث الديمقراطية وحرية الرأي والفكر، وكانت النتيجة، كما لمسنا، انزلاق هذه الأنظمة نحو العسكرة والقمع. وكانت الجريمة الأكبر أنّ هذه التجربة البائسة جاءت محمولةً على طروحات قومية،   الأمر الذي جعل "العروبة" بلا حياة في وعي الكثير من جمهور الناس، بل وربما انطبعت في أذهان بعضهم بأبشع الصور. وهنا أيضاً تأتي مساهمة كمال جنبلاط لاستنقاذ العروبة من سجنها، وعن هذا  سأكتفي بما نقله عن لسانه طلال سلمان عندما عرض عليه العدد الأول من السفير حيث قال له: "اقرِن العروبة بالديموقراطية، شرط انتصار الفكرة العربية أن تتواكب مع الديمقراطية فتتكاملان. 

إنّ الأنظمة التي رفعت شعار العروبة قد حُكمت  غالباً بالقمع  فأساءت إلى فكرة العروبة وشوّهتها، ونفّرت الناس منها.

 صارت العروبة تشبه الحاكم الذي يدّعي تجسيدها والناطق باسمها".

 لعلّ ما سبقَ يلقي الضوء على مساهمة كمال جنبلاط في الارتقاء بـ"الفكرة اللبنانية" المنكفئة على خصوصياتها الكيانية إلى أفاق "الدور التنويري" على مستوى الإقليم، بل والعالم العربي. ولعلّ هذا جعل النظام العربي يحاذره ، إلى أن كسر هذا الدور التنويري للبنان، فكان ما كان ممّا عرفناه وعانينا منه ومازلنا. وخشيتنا الآن من "الهواء الأصفر" الذي يهدّد لبنان ثقافياً وسياسياً. ويبدو لي أنّ إمكانية اختراقه الصفوف غير عسيرة عليه بوجود الانقسامات الداخلية التي تسود الساحة اللبنانية، والحسابات الشخصية الغبيّة لسياسيّها، وغياب غطاءٍ عربيٍ متسربل بالتسويات التي تشهدها المنطقة، وتتداعى نتائجها بشكلٍ دراماتيكي، وأحياناً غير مفهوم!

 أمام تيمور جنبلاط تحدياتٍ كبيرة، والتعامل معها يحتاج إلى مقاربات خلّاقة.

وعلى أي حال هي المخاطر التي كانت قدَراً تاريخياً للمختارة، كان منها وأخطرها  عوامل الحت التي تأكل من حجارة أي قلعة، فبعث فيها كمال جنبلاط الروح وحولها إلى رمزٍ ينبض بالحياة والثورة والفكر. وجاء وليد جنبلاط في ليلٍ كالح فخاض، وبأصعب الظروف عباب بحر متلاطم اخترقه بسفينته إلى شاطىء الأمان بحنكةٍ وشجاعة.

اليوم، بعض أصحاب النوايا الطيّبة يعتقدون بأنّ التشابه في الملامح والطباع بين الجد والحفيد سيقود الأخير للسير على درب جدّه، غير أني اعتقد بأنّ تيمور جنبلاط لن يكون مثل أحد، بل ويجب أن لا يكون إلّا نفسه. هكذا كان كمال جنبلاط فأبدع، وهكذا من بعده وليد جنبلاط.

ويبقى السؤال كيف سيخترق وريث المختارة الجديد عباب هذا البحر الذي الذي يموج بالتيارات ويغطيه الضباب. سؤالٌ برسم تيمور جنبلاط، وهذا يحتاج لمناجاةٍ أخرى.

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".