تغييرات سياسية كبيرة حصلت في المنطقة الشرق أوسطية خلال الفترة القريبة الماضية، وتمَّ تغييب ملفات سياسية عن دائرة الاهتمام، وظهرت ملفات أخرى مختلفة، وبدَّل فرقاء اللعبة القائمة مواقعهم، وتوزَّعت الأدوار في ما بينهم على شاكلة مختلفة عما كان قائماً. وقد انكشفت بعض الأولويات والخطط عند فرقاء الصراع الدولي، بينما المعطيات التي كانت قائمة لم تتغيَّر، أو أن بعضها لم يتبدَّل تبديلا.
ويمكن الحديث عن الملف النووي الإيراني كمثال في سياق هذه التبدلات، فبينما كان قبل فترة من الزمن يحظى بأولوية عند الدول الخمس الكبرى إضافة الى ألمانيا؛ انكفأ فجأةً عن صدارة الاهتمام، ولم يعُد فرقاء الصراع يتداولونه، إلى حد جعله طي النسيان، وقد اعتقد الناس أنه سويّ وزالت أخطاره عن أمن المنطقة برمتها، وعن العالم أجمع، ولم يعُد مستقبل "إسرائيل" مهدداً بالزوال كما كان يُشاع، كما أنّ لا شيء يهدد استقرار القارة الأوروبية إلا الحرب التي تجري بين روسيا وأوكرانيا، أو الهجوم الروسي على أوكرانيا كما يحلوا للقوى الغربية تسميته.
حسناً فعلت القوى الإقليمية الفاعلة من خلال تبديل أولوياتها، وإجراء تقارب بين بعضها البعض، وفي تمردها على الإملاءات الفوقية التي كانت نتيجتها تصبّ في مصلحة قوى دولية كبرى، لا سيما منها الولايات المتحدة الأميركية، وهذه القوى لم تراع خصوصيات شعوب المنطقة ومصالحها، بل كانت سبباً لمشكلات كبيرة حصلت، وأعاقت الحلول لبعض المعضلات القائمة، ومنها على سبيل المثال: إهمال القضية الفلسطينية، والتفرُّج على المأساة اليمنية وما يتفرع منها من تهديد للأمن القومي العربي، وتُرِك الشعب السوري يتخبط بالويلات القاسية التي أصابته منذ ما يزيد على عشرة أعوام، وعلى العكس من ذلك فقد أجهضت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما كل مجهودات التغيير، عندما أنقذت النظام وتخلَّت عن الثورة في العام 2014، مقابل تسليم الحكومة السورية الأسلحة الكيماوية التي ربما كانت تشكِّل خطراً على أمن إسرائيل.
الإدارة الأميركية تعتقد أنها تحمي دول المنطقة وشعوبها، بينما واقع الحال يؤكد غير ذلك، وهي تريد من الدول العربية المؤثرة أن تستجيب لكل ما يُطلب منها، تحقيقاً للمصلحة الأميركية وأحياناً الإسرائيلية، بينما هي لا تعير غالب الأحيان أيّ اعتبار للمصالح الاستراتيجية لشعوب المنطقة، وتحاول فرض أولويات على أجندة الحراك السياسي والأمني والاقتصادي، بما يتعارض أحياناً مع طموحات الشعوب المعنية، وصولاً إلى تحديد الجهة التي يأتي منها الخطر على هذه الشعوب، وإغفال جهات أخرى. وبالنسبة إليها؛ فإنّ العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين وعلى غيرهم من الشعوب العربية هو بمثابة أعمالٍ لحفظ الأمن، أو للدفاع عن النفس، بينما نشاط بعض الجهات الأخرى التي تشهر العداء لإسرائيل أو للولايات المتحدة الأميركية؛ هو مصدر الخطر.
الموقف العربي كان وما زال مع معالجة جدية للملف النووي الإيراني، بما يحفظ الاستقرار العام في المنطقة، ويحدّ من خطر التسابق لامتلاك أسلحة نووية مدمرة، لأن امتلاك أحد الأطراف لهذا السلاح سيؤدي حكماً إلى امتلاكه من قبل أطراف أخرى. ولا يجوز إغفال كون إسرائيل تمتلك هذا السلاح الفتاك، ويجب أن يطبّق عليها ما ينطبق على غيرها من الدول، وبالتالي تُمنع عملية انتشار الأسلحة النووية عن الجميع وفقاً لما تنص عليه المعاهدات الدولية ذات الصلة.
ليس من حق أيّ من الدول الفاعلة أن تفرض هيمنتها على الإرادة العامة لشعوب المنطقة أو غيرها من المناطق في العالم، والتعاون العربي مع الصين حصل انطلاقاً من مصلحة عربية، ومن أجل حفظ الأمن والسلام، ولتطوير مسار التنمية الاقتصادية في مختلف المجالات، وهو ليس موجهاً ضد أي جهة، لا سيما الولايات المتحدة، وهذه الأخيرة تحدد أولويات سياستها الخارجية وفقاً لمصالها، ولا تسمح لأيّ طرفٍ بالتدخُل في تحديد هذه الأولويات، بما في ذلك حلفائها، وتصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته الصين في 8 نيسان (أبريل) الماضي، والذي أشهر التمايز عن الولايات المتحدة، تحديداً في ما يخصّ العلاقة مع بكين؛ يؤكد هذه المقاربة.
غيَبت واشنطن وبعض حلفائها ملفات عن دائرة الاهتمام، وخصوصاً الملف النووي الإيراني. في المقابل، فإن قوى في المنطقة فرضت الاهتمام بملفات أخرى، لا سيما التي تنظِّم العلاقة بين المختلفين، أو التي تنهي جزءاً من الصراعات التي لا طائل منها، كما في التعاون السعودي – الإيراني المُستجد. وأبواب التعاون بين الجميع مفتوحة - كما هو حاصل في التعاون الأميركي – السعودي حول الوساطة بين أطراف الصراع في السودان. ومسار تحقيق المصالحات يسير بما لا يُهدد دور أي قوة دولية، وبما يؤمّن استقراراً للمنطقة ولشعوبها التي دفعت ثمناً غالياً للصراعات. لكن فتح ملفات التقارب لا يعني بأيّ حال من الأحوال القبول بالتجاوزات أو بالاستمرار في نهج الاستباحة والتهجير والتدخل في شؤون الغير، أو تجاهل طموحات الشعوب وحرمانها الحد الأدنى من حقوقها المشروعة كما هو حاصل في سوريا وفلسطين.
لم يتبين حتى الآن، بشكل قاطع، ما إذا كانت الحرب الداخلية في السودان نتاجاً للتغيير في الاستراتيجيات الدولية، لكن ما يبدو واضحاً أنّ محاولة استغلالها بدأت، وليس مستبعداً أن تكون إحدى الأولويات المستجدة التي لم تكُن بالحسبان.