المبالغات الإيرانية في التصريحات السياسية عن السعودية تصل أحياناً إلى حدود الانفصام المرَضي، بالمعنى العيادي للكلمة. فبين قول المرشد علي خامنئي إنّ إيران ستمرّغ أنف آل سعود في التراب، وتصريح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أنّ بلاده "ترفض أن تعدّ السعودية عدوّاً لنا"، تحوُّل مهول. في المقابل لن يعثر المراقب على مستوى سعودي مماثل من التصريحات حول إيران، تذهب إلى الحدود القصوى سلباً أو إيجاباً. يستدعي هذا الفارق في النصّ السياسي للبلدين، التوقّف عنده للتأكّد من مصداقية ومتانة المصالحات الجارية، أو ما إذا كانت مجرّد هُدَن مؤقّتة للتأقلم مع ظروف راهنة سرعان ما تتبدّد لصالح تقدُّم عناصر الخلاف الأيديولوجي بين البلدين.
المصالحة العميقة بعيدة المنال
على الرغم من الجهود الدبلوماسية المستمرّة وفترات الانفراج المتقطّعة، لا يزال احتمال تحقيق مصالحة عميقة ودائمة بين إيران والمملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر بعيد المنال. فقد أدّى التفاعل المعقّد بين المظالم التاريخية، وديناميكيات القوّة الإقليمية والاختلافات الدينية والأيديولوجيّة وتأثير القوى الخارجية، إلى خلق بيئة راسخة من عدم الثقة والعداء، ولا سيّما في العقد الأخير الذي حاولت فيه إيران الاستثمار في فرصة "الربيع العربي" للنفاذ إلى الدول العربية، وبالغت فيه الأصوات المتطرّفة الإيرانية بإعلان السيطرة على عدد من العواصم العربية. حتى تحوّلت أسماء هذه العواصم إلى نشيد بالعربية الفارسية استقبل على أنغامه الرئيس الإيراني في مقام السيّدة زينب في عاصمة الأمويين أول من أمس.
لم يطرأ تغيير جدّي، حتى الآن، على شبكة العوامل المعقّدة التي منعت باستمرار إحراز تقدُّم حقيقي نحو تفاهم دائم بين إيران وجيرانها العرب. ما تغيّر، بحسب ما تشير إليه المصالحات الأخيرة، أنّ إيران تعيد تعريف دورها في المنطقة، عبر العودة إلى إحياء قضية الصراع العربي/الإسلامي الإسرائيلي، والتخفيف من السلوكيات والتصريحات التي تمحورت سابقاً حول التحدّي المباشر للهيكل السياسي الرئيسي في العالم العربي كمصر والسعودية والإمارات.
الاستنتاجات الإيرانية
لقد توصّلت إيران إلى استنتاج أوّل مهمّ مفاده أنّ مفاقمة العداء مع الدول العربية، دفعت بهذه الدول إلى إيجاد شبكة تفاهمات جدّية مع إسرائيل، كان الاتفاق الإبراهيمي الذي قادته الإمارات عنوانه الأبرز، بالإضافة إلى خطوات تطبيعية مهمّة بين السعودية وإسرائيل ولو هادئة ومشروطة بحل الدولتين للوصول إلى اتفاق سلام سعودي إسرائيلي. وتراهن إيران على أنّ المصالحة مع السعودية قد تؤدّي إلى فرملة هذا الاتجاه العربي الإسرائيلي الذي تعتبره بمنزلة خطر استراتيجي يهدّد الأيديولوجيا الإيرانية برمّتها.
كان لافتاً خلال وبعد محطات الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، ارتفاع حدّة الإشارات الإيرانية حول إسرائيل من تصريحات لخامنئي وأركان نظامه عن إزالة إسرائيل، وصولاً إلى الاستعراض الصاروخي المتزامن من غزّة ولبنان والجولان الشهر الفائت، وصولاً إلى تعظيم الجانب الفلسطيني من زيارة الرئيس الإيراني لسوريا للمرّة الأولى منذ 13 سنة واجتماعه مع الفصائل الفلسطينية تحت عناون دعم المقاومة وخيارها. يتزامن ذلك مع تقارير استخباراتية عن سعي إيران إلى وضع استراتيجية توحّد الميليشيات التابعة لها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتزويدها بما يسمح لها بأن تتحوّل إلى جبهة صاروخية متكاملة ضدّ إسرائيل.
أمّا الاستنتاج الثاني المهمّ الذي توصّلت إليه إيران والذي يقع في خلفيّة الأسباب التي دفعتها للمصالحة مع السعودية، والتحوُّل من استراتيجية تحدّي النظام الإقليمي العربي مباشرة، إلى إحياء الصراع العربي/الإسلامي الإسرائيلي، فهو ضرورة أن تُقْدِم إيران على معالجة عواقب توسّعها العسكري والسياسي غير المنضبط خلال سنوات الربيع العربي، ولا سيّما التداعيات الاقتصادية الكبيرة.
كان لافتاً في هذا السياق أنّ الشخصية الأبرز التي ظهرت في فريق التفاوض الإيراني إلى جانب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأدميرال علي شمخاني، وزياراته الخليجية، هو محمد رضا فرزين، محافظ "البنك المركزي للجمهورية الإسلامية الإيرانية".
من الواضح أنّ إيران تسعى إلى مقايضة أمن السعودية عبر اليمن بالأمن الاقتصادي في طهران عبر توفير الأرضية السياسية بين الرياض وطهران التي تسمح باستثمارات سعودية في إيران. وفي هذا السياق قال وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، خلال كلمته بمنتدى القطاع الخاصّ الأوّل لصندوق الاستثمارات العامّة السعودي الشهر الفائت، إنّ هناك الكثير من الفرص لاستثمارات سعودية في إيران، والعكس، وإنّه لا يرى عوائق طالما سيتمّ احترام بنود الاتفاق بينهما.
ثالثاً، توصّلت إيران إلى استنتاج مفاده أنّ اضطراب أولويّات النظام الإيراني خلال العقد الفائت، وتقدُّم أولويّة الصراع المباشر مع النظام الإقليمي العربي، على حساب الصراع مع إسرائيل، أضعف الشرعية الثورية للنظام في الداخل الإيراني، في لحظة تتّسم بتحدّيات اقتصادية واجتماعية قاسية يواجهها المواطن الإيراني. فالسؤال البديهي المطروح في إيران: لماذا على الإيرانيين أن يعانوا من أجل محاربة السعودية والإمارات في حين أنّ النظام يزعم مقاتلة إسرائيل والاستكبار العالمي؟!! زد على ذلك أنّ تراجع العنوان الإسرائيلي كقضية النظام الإيراني الأولى، مقروناً بحجم مريع من الإهانات الإسرائيلية لإيران في الداخل الايراني وفي ساحات انتشار ميليشيات إيران، أضعف مكانة المؤسّسة الإيرانية. كما أنّ زعم إيران السيطرة على عواصم عربية، جعلها عرضة لسخرية قاتلة من مواطنيها أوّلاً، حيث إنّها في الواقع لا تسيطر إلا على عواصم دول فاشلة مثل لبنان وسوريا واليمن، في حين ينجذب المواطنون الإيرانيون أكثر إلى مدن مثل دبي أو الرياض أو أبو ظبي أو الدوحة، التي توفّر ظروفاً اجتماعية واقتصادية أفضل.
إيران: للتكيّف المؤقّت
وعليه فإنّه عبر إعادة تعريف القضية الإيرانية ودور النظام الإيراني كقوّة محاربة لإسرائيل والدعوة إلى الاستقرار الإقليمي في الوقت نفسه، تسعى إيران إلى تنفيس حالة التأهّب بين النخبة والإعلام ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي عندها وفي دول الخليج ومصر. وهي تعتقد أنّ تخفيف حدّة التوتّر مع هذه العواصم سيقضي على المقارنات بين إخفاقاتها ونجاحات دول الخليج، ويعيد تركيز الانتباه على إيران كدولة مقاومة، بينما سيكون بوسعها عند اللزوم تصوير الآخرين على أنّهم خاضعون وخانعون لإسرائيل والولايات المتحدة والغطرسة الدولية.
والحال هذه، تبدو جهود إيران نحو المصالحة مع دول مجلس التعاون الخليجي سطحية وغير جادّة، وقد لا تتجاوز اضطرار إيران إلى التكيّف المؤقّت مع متغيّرات اقتصادية واجتماعية واستراتيجية مهمّة في المنطقة. في جوهرها، تتناقض الأيديولوجية الثورية الإيرانية بشكل صارخ مع الطبيعة البراغماتية لدول الخليج المدفوعة بأجندات وطنية جبّارة في مجالات التطوير والتنمية وما يترتّب على ذلك من توسعة شبكات العلاقات السياسية في الإقليم وفي العالم، على نحو سيشكّل ولا بدّ تحدّياً لإيران، ولا سيّما العلاقات العربية الإسرائيلية. سيظلّ هذا الصراع بين النموذجين مستمرّاً ولو اتّخذ أشكالاً مختلفة، يتّسم بعضها بحدّة أقلّ ممّا ساد خلال العقد الماضي، بيد أنّ نتيجة هذا الصراع هي القوّة الحاسمة التي ستشكّل مستقبل الشرق الأوسط.