في الذكرى الرابعة والسبعين لتأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي، 2013/1949، ماذا عسانا نكتب، ماذا عسانا نقول، لقد استمرت قيادة كمال جنبلاط برئاسة الحزب منذ الأول أيار سنة 1949، وحتى تاريخ استشهاده المنير، في السادس عشر من شهر آذار سنة 1977، يوم كتب بدمائه الذكية أروع رسالة لنا وللتاريخ، وعلّمنا أن ليس من شيء أشرف من العبور فوق جسر الموت إلى الحياة التي تهدف إلى إحياء الآخرين، إلى محض قضيتهم، قوّة الانتصار مع الزمن إلى ترسيخ مثال الصمود والتضحية في نفوس المناضلين!؟
وفوق جسر الأمل الذي ترسمه الشهادة، يعبر الجميع إذا كان لهم قدرة الارتفاع إلى مستوى الأحياء الحقيقيين في موتهم الظاهر العابر بيننا، وتأمّلوا لعبة الحياة، فهل من موت في هذا الكون المتبدّل باستمرار، كتغيير مياه النهر الجارية، فلا تكون أبداً ذاتها.
وتابع المعلم الشهيد في رسالته لنا جميعا يقول: "وهل من موت إلّا في محور الإنسان؟ وهذه الروح الخالدة، وهي من أمر ربّي، تولد حقيقة أو تموت، وهي خالدة مدى السرمدية حيث الزمان يتلاشى، بمفهومه في ظل الأجل والأمد. إن الموت يقظ متتالية في حالة الصحو، وفي كل تغال زمني قوّة تتفتّح على وجه الحق فينا، فندرك حقيقتنا وجوهر ماهيتنا، من خلال هذا الكفاح القصير".
والكلام هنا لكمال جنبلاط وليس لي بالتأكيد.
ومن هذا الكلام العميق المؤثّر، انتقل إلى الخطاب الذي ألقاه كمال جنبلاط في دمشق في التاسع من آذار عام 1958، إثر إعلان الوحدة بين سوريا ومصر، (وقد توجّه على رأس وفد شعبي كبير لتهنئة الرئيس جمال عبد الناصر بإعلان الجمهورية العربية المتحدة) ولقد شدّد كمال جنبلاط في خطابه على خصوصية لبنان، لبنان الذي تتعايش فيه كل الطوائف الدينية، وكل الإتجاهات السياسيّة تحت لواء الميثاق الوطني الذي هو هيكل وحدة البلاد وسيادتها.
وأوضح كمال جنبلاط الأسباب التي شرحها مطوّلاً والتي تنفي التناقض بين لبنان المستقل صاحب السيادة والعروبة التي نادت بها الثورة المصرية. ثمّ توجّه إلى الرئيس عبد الناصر قائلاً: إن الإصلاحات التي أعلنت في مصر لا يمكن أن تصل إلى غايتها إذا لم تستوحِ روح المسيحية والإسلام.
سنة 1943 وبعد دخوله المعترك السياسي وانتخابه نائباً شدّد في خطاب له في المجلس النيابي على أن الاستقلال والوحدة الوطنية هي قدر اللبنانيين وان العروبة هي حامية لبنان وهي التي تجمع وتوحّد. وشدد على ان الميثاق الوطني يتوجب أن يكون له محتوى اقتصادي واجتماعي فتحقق الدولة العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
ومنذ سنة 1944 وضع كمال جنبلاط يده على أزمة النظام السياسي في لبنان فأعلن أن الأزمة هي أزمة حكم وان المطلوب هو إعادة تكوين هذا النظام وإقامة نظام ديمقراطي جمهوري يقوم على التوازن بين السلطات وتحمل المسؤوليات.
ودعا إلى أن تكون السلطة الإجرائية في مجلس الوزراء مجتمعاً والى انتخاب رئيس الحكومة من قبل مجلس النواب وتحقيق المناصفة في عدد النواب وموظفي الفئة الأولى بين المسيحيين والمسلمين، ريثما يقوم النظام المدني العلماني ومعه الإصلاح الشامل في السياسة والإدارة والمجتمع والتربية والصحة والقضاء.
ودعا إلى إنشاء المحكمة الدستورية التي تنظر في الطعون النيابية ودستورية القوانين.
ولو سمعوا من كمال جنبلاط منذ سنة 1944 وعملوا بطروحاته لما تعرّض لبنان لهذه الأزمات المتواصلة التي حالت دون بناء الدولة والوطن.
والأزمات مستمرة حتى أيامنا هذه وأصبحت تهدّد المواطنين في لقمة عيشهم وعلى الأخص الاحتكار والغلاء المستشري وانهيار سعر صرف العملة الوطنية بشكل مخيف وخطير جداً.
ولا مناص من التأكيد على أن فترة رئاسة وليد جنبلاط للحزب التقدمي الاشتراكي وقيادته للنضال الوطني قد وصلت حتى أيامنا إلى ستة وأربعين عاماً (2023-1977)، ولقد استهلها وليد جنبلاط بالتأكيد على أن المبادىء هي المبادىء والرجال هم الرجال، وشدّد في الذكرى الأولى لاستشهاد المعلم كمال جنبلاط على ان الوفاء للرجل وللشهادة يكون في الحفاظ والتمسك بالموقف الوطني المستقل، والحفاظ على الحريات العامة والخاصة، والتشدد على المنهاج الأخلاقي الشامل الذي وضعه القائد الشهيد وقاد النضال الوطني من أجل تحقيقه.
والوفاء للحقيقة والتاريخ يستدعي كل التقدير والوفاء لشخص وليد جنبلاط ولقيادته الحكيمة والفاعلة للحزب ولمسيرة النضال الوطني طوال هذه المدة من الزمن وسط الأزمات والتعقيدات التي تخللتها، فلقد حافظ الوليد على الأمانة وطوّرها، فبقيت المبادئ هي المبادئ والرجال هم الرجال، بل وأن الحزبية والشعبية قد توسّع إطارها وازداد تعدادها وتوضحت أهدافها وبرامجها، وأولها التمسك بالعزة والكرامة ومبادئ الاصلاح الوطني الشامل.
وها نحن نعيش ولا زلنا أزمة من أخطر الأزمات وأكثرها تعقيداً. ولكن لبنان كان ويبقى بلد التناقضات والاختلاف في الرأي والتنوع ضمن الوحدة. كما أنه كان ويبقى بلد التسوية الدائمة التي تحفظ للبنان ووحدته والتمسك برسالته. فهو أولاً وأخيراً رسالة وليسَ مجرد وطن. ورسالته تبقى وتتأكد كوطن الله على الأرض والمختبر الشمولي الوارث لقيم وثروات هذا الشرق الأصيل الذي عرف في تاريخه الطويل العديد من المحتلين والظالمين: كلهم ذهبوا وجاؤوا وبقي هذا الشرق لبنيه ولأصحابه الحقيقيين.
*المدير المسؤول في جريدة الأنباء