كمال جنبلاط مثقفاً، وشاعراً رائياً

30 نيسان 2023 12:52:12 - آخر تحديث: 02 تموز 2023 21:03:56

كمال جنبلاط مثقفاً، وشاعراً رائياً
قلَّ أن ترى سياسيا عريقاً ومن الصنف المتقدم مَكْسُوَّاً ومترعاً بالثقافة إلى حدِّ الامتلاء مثل كمال جنبلاط، وبخاصة في لبنان. لم أرَ سياسياً واحداً في لبنان يمارس فعلاً ثقافياً وعلى جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وأنا أتساءل أولسيت الأميّة الثقافية عند السياسي اللبناني سبباً من أسباب انهيار كياننا، وعلى المستويات كافة.
نعم، نستثني المرحوم كمال جنبلاط الذي كان سياسياً من الدرجة الأولى حتى بتكوينه الجيني المتوارث، ومثقفاً نادر التكرار، والذين عاصروا كمال جنبلاط يعترفون بأنهم كلما زاروه رأوه مع خير جليس، ومنصرفاً عمّا عداه. وواضح أنّ ثقافته العميقة كانت عاصماً له من الخلل. وكانت عصمته الثقافية لصيقة بعصمته الموروثة التي ورثها كابراً عن كابرٍ.
وكان لثقافته العميقة أثران بارزان في حياته ومواقفه وسلوكه، وهما الجذرية السياسية العميقة التي جعلت سلوكه مستقيما طوال عمره، والأثر الثاني هو نقاؤه الذي حوَّله شاعراً رائياً ومتصوفاً بسلوكه وبأبعد ما يتخيله معاصروه وعارفوه. تصورْ معي إنساناً متحدراً من عائلة إقطاعية تأمره صوفيته وثقافته أن يتخلى عن كثير من إرث العائلة للمواطنين، وهنا الثقافة جعلتنا نقارنه بالأديب الروسي الخالد تولستوي، الذي كانت ثقافته تأمره بالتخلي عمّا يملك لمن لا يملك.
وأنا أرى أنّ ثقافة كمال جنبلاط النقيّة والتي حوَّلها سلوكاً دائباً هي التي حولته صوفياً وشاعراً رائياً، فالشعر في الأساس هو الثقافة الدافئة التي تتقنها الروح قبل أن يتقنها العقل، والثقافة الروحية في شخصية كمال جنبلاط متحدِّرة من درزيته الموحِّدة والمتصفة بالحلول، وبالغوص أكثر في معرفة أشياء الكون الأولى. إنّ وحدة الوجود الموروثة من التصوف الهندي والإسلامي ومن درزيّته جعلت كمال جنبلاط يعشق الثقافة الصوفية إلى مرحلة الحلول فيها، ويحوّلها سلوكاً وممارسة, ومن أهم مرتكزات هذه العقيدة هي استمرار الحياة في الموت مما يجعل الموت مناقضاً للعدمية، ومتصفا بتكرار تجربة الحياة الإنسانية باتجاه الأعلى. والإيمان بيقظة الموت في الحياة. وعودته إليها تجعل الإنسان مراقباً لنفسه، وأكثر خجلاً من الحيوات اللاحقة، وهذا ما يفسر ارتباط التصوف بالنقاء والصعود إلى الأعلى حتى الحلول في الكونية المطلقة كما ترى الثقافة الهندية وثقافة التصوف الإسلامي في فصوص حكم محي الدين بن عربي.
حين يتم التفريق بين الموت والعدمية يصبح الموت مرحلة من الحياة، وتحس بألق التجلي المنبعث من إنسانية الإنسان، ويكون الحب السامي هو الجامع بين موجودات الكون كلها، ولنستمع إلى شاعرنا الرائي كمال جنبلاط وهو يكشف سر الوجود وارتباطه بالحب في ديوان "فرح":
هي الأيامُ تجري في دمانا     أم الحقُّ المكوِّنُ ألفَ حالِ؟
كأنّ الشيءَ سِفْرٌ قد تَبَدّى     وقام الشفعُ من وتْر التعالي
وكان الحبُّ من إنسٍ وجنٍّ      هو الشوقَ القديمَ إلى المثالِ
الحبّ لم يكن سِفْراً في شعر كمال جنبلاط فحسب، بل كان سلوكاً سياسياً، وهذا ما جعل عروبته نقيّةً كالنور خالية من المكر والعقد، وهذا أيضاً ما جعل لغته الصوفية مشحونةً بالحس وذات أبعادٍ تأويلية، وكانت في الوقت ذاته عاجزة عن نقل إشراق ذاته إلى الكلمة، مما يذكّرُنا بقول النفري المتصوف: "كلّما تاتسعت الرؤيا ضاقت العبارة".
تحية لروح الثائر المثقف الشاعر الرائي كمال جنبلاط.

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".