Advertise here

أثرُ التّعطيلِ على التّعليم

24 نيسان 2023 15:32:52

للمدرسةِ دورٌ في تأسيسِ الطّالبِ وتأمينِ مستقبلِه. المدرسةُ تفكُّ قيودَ الجهلِ والعبوديّةِ والتّبعيّةِ والانقياديّةِ للنّاشئة، والعلمُ يجعلُ الطّالبَ منفتحًا على الحياة، فيفهمُ ما يدورُ حولَهُ، يلاحظُ، يكتسبُ. الطّالبُ مستقبلُ الأمّةِ. العلمُ ينيرُ العقولَ ويهذّبُ النّفوسَ، كلّما يتعمّقُ بهِ الإنسانُ يشعرُ بمدى حاجتِه للازديادِ. فالعلمُ بحرٌ ومهما تعلّمْنا ينقصُنا الكثير.

بدأ الإضرابُ المفتوحُ في القطاعِ التّربويّ الرّسميّ منْ صفوفِ الرّوضات حتّى نهايةِ المرحلةِ الثّانويّةِ من 20-12-2022 أي ما يقاربُ أربعة أشهرٍ ونيّف منَ العامِ الدّراسيّ الحالي.  وقدِ انعكسَ هذا الإضرابُ سلبًا على المستوى التّربويِّ، وعلى نتيجةِ الطّلّابِ ومستقبلِهم، علمًا أنَّ هذا الإضرابَ محقٌّ وشرعيٌّ، فكيفَ للمعلّمِ أنْ يصرفَ على وظيفتِه ويَنفِقَ عليها بدلَ أن تُؤمَّنَ لَهُ احتياجاتُه.

فما انعكاساتُ التّعطيلِ على التّعليمِ؟ 
الطّالبُ يخسرُ التزامَه النّظاميَّ في دراستِه وفي حياتِه. حيثُ إنَّ ذهابَهُ إلى المدرسةِ يجعلُه منظّمًا ومنتظمًا في استيقاظِهِ وأدائِه. ويجعلُه يلتزمُ. والالتزامُ ضروريٌّ للنّجاحِ في الحياةِ. فذهابُ الطّالبِ إلى المدرسةِ يجعلُه يستثمرُ وقتَه أحسنَ استثمارٍ. كمْ نحنُ أحوجُ إلى إنسانٍ يحترمُ وقتَه ويعرفُ قيمةَ حياتِه يستحقُّ أنْ يحيا لأنّه اعتادَ على استثمارِ وقتِهِ استيقظَ باكرًا ووضعَ خطّةَ عملٍ يوميّةً وأسبوعيّةً وشهريّةً وسنويّةً، وغدَتْ حياتُه منظّمةً. "منْ يقرأْ وهو صغيرٌ يقرأْ وهو كبيرٌ، ويستمرَّ في القراءةِ مدى الحياة".

يُفرَغُ وقتُ الطّالبِ، ولا يعرفُ ماذا يفعلُ، فهوَ لمْ يوجّهْ جيّدًا منْ قبلِ أهلِه ومعلّميه، حيثُ إنّ الكثيرَ منَ الفارغينَ يقضونَ نهارَهم في لعب games على الهاتفِ. يقيمون بنيانًا منَ العدمِ ويهدمون أبراجَ الوقتِ كلَّها بجلوسِهم على أرائكِ التّسويفِ. 

هذا التّعطيلُ القسريٌّ والمفتوحُ يساهمُ في إضاعةِ الوقتِ وعدمِ تنظيمِ المعلّمِ والطّالبِ لحياتِهما، فيرغبُ الإنسانُ بشكلٍ عامٍّ في الإضراباتِ والعطلِ ويزدادُ كسلًا وتوقًا إلى اللّهوِ، والقليلُ منْهم مَنْ يستغلُّ الفرصَ والعطلَ ويستفيدُ منْها.

هذا التّعطيلُ يعطّلُ الإبداعَ عندَ المعلّمِ وعندَ الطّالبِ على السّواء، فتغدو حياةُ كلٍّ منْهما مجرّدَ شرائحَ في العطاءِ الآنيِّ والوقتِ المتقطّعِ لأنَّه لا يعرفُ متى يعودُ إلى دوامِهِ، ومتى يفكّ الإضراب. حتَّى المعلوماتِ الّتي أعطيَتْ ينساها الطّالبُ، لأنَّ المعلوماتِ بحاجةٍ إلى التّثبيتِ والاستمرارِ والمتابعةِ، ما يؤثّرُ على توحيدِ الرّؤيةِ المتكاملةِ للعمليّةِ التّعليميّةِ. 

ما أخطرَ ألّا نرسمَ هدفًا أمامَنا! ما أخطرَ أنْ تسألَ الطّالبَ: "بمَ ستختصُّ؟" فيجيبُك:" لا أعلمُ، آملُ في نيلِ شهادتي أوّلًا، ضبابيّةٌ تلفّ مستقبلَنا، نحنُ الطّلّابَ. فكيفَ نساعدُ هؤلاءِ النّاشئةَ على أنْ يتمكّنوا منَ التّخطيطِ لمستقبلِهم؟ وما هيَ واجباتُنا تجاهَهم كأهلٍ ومعلّمينَ؟!
نأملُ منْ طلّابِنا الأعزّاءِ استغلالَ وقتِ فراغِهم لأنَّها فرصةٌ لا تتأتّى دائمًا. فمن فوّتَ الفرصةَ منْ يدِه مرّةً، فاتَتْه متعةُ الاستراحةِ، ومتعةُ الإنتاجِ، ومتعةُ الوجودِ.

ففي السّنواتِ الثّلاثِ الأخيرةِ كثيرٌ منَ المعلوماتِ لم تعطَ للطّالبِ، كثيرٌ منَ التّطبيقاتِ والتّثبيتِ للمعلوماتِ لمْ يعطَ. ذلكَ العلمُ مبتورٌ لا يقوى على الوقوفِ أوِ المشي أو السّيرِ قُدُمًا. كيفَ إذا كانَتِ العطلُ متكرّرةً وقسريّةً تأتي لتهدمَ ما تبقّى منَ البيانِ الثّقافيِّ والتّحصيلِ العلميِّ عندَ الطّالبِ.

منْ جهّةٍ ثانيةٍ ذلكَ المعلّمُ الّذي يتقاضى راتبًا لا يكفيه شراءَ خبزٍ لعيالِه. كيفَ لهُ أنْ يشاركَ في معارضِ الكتبِ والأبحاثِ التّربويّةِ، وفي الدّوراتِ التّدريبيّة لتقويةِ عطائِه التّربويّ، وفي النّشاطاتِ الدّاعمةِ أداءَه والصّاقلةِ إنتاجَه. تراهُ يكرّرُ نفسَه ويتراجعُ مستواه وأداءَه. فنحنُ الأساتذةَ بحاجةٍ إلى راحةِ بالٍ، إلى اكتفاءٍ مادّيٍّ لنشاركَ في مؤتمراتٍ، لنجلسَ لساعاتٍ في المكتباتِ العامّةِ نقرأُ ونبحثُ عنِ المعرفةِ، لأنّ المعرفةَ لا تبحثُ عنّا. فكلّما كانَ المعلّمُ متمكّنًا منْ مادّتِهِ، كلّما استفادَ الطّالبُ منْه، واقتنعَ بما يكتسبُ، واستمتعَ بشرحِ المادّةِ. فالمعلّمُ عنصرٌ مهمّ  فهو ضابطُ الإيقاعِ ومحرّكٌ ومديرُ العملِ الصّفّيّ.
فكيفَ لَهُ أنْ يشرحَ ويعلّمَ ويثقّفَ ويخرّجَ أجيالًا، وهوَ جائعٌ؟ وهو لا يقوى على تأمينِ مستلزماتِ بيتِه الأساسيّةِ، أو لا يقدرُ أنْ يملأَ الوقودَ لسيّارتِه ليصلَ إلى دوامِه.

ها هو المعلّمُ يخرّجُ الطّبيبَ والضّابطَ والمهندسَ والسّفيرَ والقنصلَ والوزيرَ والنّائبَ. كلُّ هؤلاءِ كانُوا في يومٍ ما يجلسونَ على مقاعدِ الدّراسةِ يتعلّمونَ منْ أستاذٍ يشرحُ لهم الدّرسَ، ويصحّحُ لهم الفرضَ ويجيبُ عنْ أسئلتِهم وتساؤلاتِهم واهتماماتِهم.

لماذا تخفض قيمةُ المعلّمِ؟ أهذه هي قيمةُ مَنْ أنارَ العقولَ وأضاءَ النّفوسَ ودلَّ الأجيالَ على طريقِ الخيرِ والفضيلةِ؟ أهذهِ هيَ قيمةُ منْ أزاحَ عنّا الجهلَ وأنارَ دربَنا بالعلمِ والوعي؟

منَ البديهي أنْ يركّزَ لبنانُ على القطاعِ التّربويِّ والعلميّ كأساسٍ لنهضتِهِ، كونُه بلدًا لا يستمتعُ بمواردَ طبيعيّةٍ بارزةٍ. لا بدّ أن يستندَ إلى عناصرِ العلمِ والتّربيةِ والثّقافةِ تحديدًا لميزاتِه بينَ الدّولِ. 

ما ذكِرَ أعلاه يشيرُ إلى أنّ نجاحَ لبنانَ، كما إخفاقَه في تطويرِ نظامِه التّربويِّ وتوسيعِ مقدرةِ أبنائِهِ، استيعابًا للعلومِ وإسهامًا في تطويرِها في آنٍ، هو الّذي سيحدّدُ هُويّتَه المستقبليّةَ ودورَه الإقليميَّ والدّوليَّ. حتّى إذا فشلَ في أنْ يكونَ خلّاقًا ورائدًا تحوّلَ إلى مجرّدِ رقعةٍ جغرافيّةٍ يتبارى أهلوهُ عليْها معَ أمثالِهم منَ الشّعوبِ تنافسًا على الكسبِ والصّفقاتِ التّجاريّةِ. إذا كانَ التّعليمُ ما قبلِ الجامعيِّ مهدّدًا ومضطربًا، والجسمُ التّعليميُّ يتداعى بالألمِ، إنْ تعطّلَ التّعليمُ في الحلقاتِ الأساسيّةِ وفي الحلقةِ الثّانويّةِ يخسرُ الطّالبُ المعلوماتِ، ويتقلّصُ الأداءُ وتموتُ الطّموحاتُ أمامَ صخرةِ الواقعِ. فأيُّ مستقبلٍ ينتظرُنا؟ 

فالتّعليم ما قبل الجامعيِّ يجعل الطّالبَ يكوّنُ شخصيّتَه ويعرفُ ماذا يريد، وأيُّ اختصاصٍ يدرسُ ويختصُّ؟ بما يتلاءمُ وميولَه وقدراتِه وكفاءاتِه. يكونُ مؤهّلًا على أساس إنسانيّ وخَلقيّ مع حركة الفكرِ والرّأي ليتمكّنَ منْ توطيدِ مكانةِ لبنانَ حضاريًّا في العلم، وتنميةِ قدراتِه في التّعاطي معَ التّطوّراتِ العالميّةِ في شأني الثّقافة والحضارةِ في مناخٍ معافى منَ الحرّيّةِ الأكاديميّة والعلميّة والبحثيّة. فإذا كانَ التّعطيلُ يكونُ المناخُ قمعيًّا بعيدًا عنِ الحرّيّة. لأنّ للطّالبِ الحقَّ في التّعليمِ وفي اكتسابِ المعارف، وفي تكوينِ ثقافتِه وفي تنميةِ قدراتِه وحضورِه وشخصيّتِه وحرّيّتِه في الفكرِ والرّأي والمعتقدِ واختيارِ الاختصاصِ الّذي يلائمُه، والّذي يحتاجُ إليه الوطنُ لينموَ ويزهر.

ما معناه، نحن بإضرابِنا هذا وبتعطيلِ التّعليمِ نساهمُ في تقويضِ أسسِ التّربيةِ ونساهمُ في هدمِ جيلٍ طامحٍ، فيغدو عابثًا لاهيًا لا يقدِّرُ الوقتَ والعلمَ والعملَ. يستجدي المعلوماتِ من هنا وهناك.

في كلّ عامٍ يتخرّجُ ما يقاربُ 39 ألف طالبٍ وطالبةٍ بين مهنيّ وأكاديميّ. (متوسّط وثانوي)، هل يجد هؤلاء لهم مقاعدَ في الجامعة؟ وظائفَ في سوق العمل؟ إلى أيّ حدّ يسافر عددٌ منهم؟ كم يتوافرُ في لبنان منَ البطالةِ المقنّعة؟ هل كلُّ الطّلّاب يستحقّون النّجاح؟ يمتلكون الكفاءة؟ كم عددُ النّاجحين على مستوى الاستلحاق؟ ما مصيرُ هؤلاء؟ 
حبّذا لو ندعمُ القطاعَ المهنيَّ العامَ فيتّجهُ الطّلّابُ إلى دراسةِ مهنٍ واستلامِ العملِ بها مستقبليًّا، عندئذٍ ينتظمُ القطاعُ الأكاديميُّ ويتوازنُ التّدريسُ والاختصاصُ وسوقُ العملِ.
نعم. التّعليمُ المهنيُّ يجمعُ بينَ النّظريّ والتّطبيقيّ. " الممارس خيرٌ من الدّارس".، وثمّة مثلٌ يقولُ:" مالكُ صنعة مالكُ قلعة". وذلك من وجهة نظري ومن خلال تجربتي في التّعليمِ.

كما للتّعطيلِ بعدٌ مهمٌّ جدًّا، فهوَ يبترُ العلاقاتِ الاجتماعيّةَ، فكثيرٌ منْ صداقاتٍ كوّنّاها على مقاعدِ الدّراسةِ، ومنَ الوظيفةِ، والمساهمةِ في المناسبةِ الاجتماعيّة. لكنّ السّوادَ الأعظمَ منْ هذا الجيلِ الّذي تعلّمَ أولاين وتوقّف عنِ الدّراسةِ في فترة كورونا ولبسَ كُمامةً، وتعلّمَ أن يبتعدَ عن أخيهِ الإنسانِ لأنّهُ سببُ مرضِه وموتِه، ثمّ عَطّل عنِ الدّراسةِ لشهورٍ لأنّ الأساتذة لم يأخذوا حقوقَهم، ولأنّه لا يتمكّنُ منَ المجيء إلى المدرسة بسببِ غلاءِ المواصلاتِ. فتراهُ يعتادُ العزلةَ وعدمَ المخالطةِ وعدمَ بناءِ صداقاتٍ معَ الآخرينَ.  "فمن شبَّ على شيءٍ شابَ عليه"، عندئذٍ تتأثّرُ العلاقاتُ الاجتماعيّةُ، فيعتادُ الجيلُ الصّاعدُ على المكوتِ أمامَ الهاتفِ في زاويةٍ له من زوايا البيتِ، فلا يتدخّلُ أحدٌ بأحدٍ. ما يجعلُ الأُسَرَ تُحَلُّ والعلاقاتِ تتقوّضُ. 

الطّالبُ مغلوبٌ على أمرِه، ينتظرُ قرارَ العودةِ ووضعَ البلادِ، يلفُّه الفقرُ، ينتقلُ الطّالبُ الثّانويُّ إلى سوقِ العملِ يبيعُ الخضارَ ويوزّعُ ديلفري، ينتجُ المالَ فيتسرّبُ منَ المدرسةِ ويحصلُ بينّه وبينَ مقاعدِ الدّراسةِ شرخٌ. فلم يعدْ يرغبُ في العودةِ إلى المدرسةِ لافتقادِه النّظامَ والدّوامَ والانتاجيّةَ الفكريّةَ. فكثيرٌ منَ المعلوماتِ قدْ فاتَتْهُ ولا يستطيعُ اللّحاقَ بركبِ العلمِ بحسبِ ظنِّه. يتركُ المدرسةَ وينخرطُ في العملِ، وعندَما ينتجُ المالَ يفقدُ الرّغبةَ في الجلوسِ على مقاعدِ الدّراسةِ لساعاتٍ يوميًّا.


ومن نتائج التّعطيلِ أيضًا، التّسرّبُ المدرسيُّ. ومن أسبابُ التّعطيلِ المدرسيّ أيضًا وجودُ صعوباتٍ في التّعلّمِ وتدنٍّ في المستوى والتّحصيلِ العلميّ. وضعفُ القابليّةِ تجاهَ التّعلّمِ منْ قبلِ الطّالبِ ووجودِ مشاكلَ في الأُسرةِ ووجودُ حالاتِ الطّلاقِ والانفصالِ حيثُ تقلُّ درجةُ الاهتمامِ والإشرافِ على الأبناءِ منْ قبلِ الأهلِ. وعدمُ اهتمامِ الأُسرةِ بظاهرةِ التّعليمِ ولجوءُ الطّالبِ إلى العملِ في أثناءِ هذه المرحلةِ بسببِ فقرِ الأسرةِ أو تدنّي دخلِها. ووجودُ مشاكلَ في البيئةِ المدرسيّةِ ونفورُ الطّالبِ منَ المدرسةِ وعدمُ شعورِه بالانتماءِ، وفاةُ أحدِ الوالدينِ خاصّةً الأم. تعرّضُ الطّالبِ للعقابِ البدنيّ أوِ الكلاميّ في المدرسةِ  وشعورُه بالتّمييزِ بينَه وبينَ غيرِه منَ الطّلّاب.

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".