لبنان يعلّم واللّبنانيون لا يتعلّمون

13 نيسان 2023 14:54:25

"اليوم 13 نيسان. الذكرى الثالثة والثلاثون لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان. من دولة الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1943 الى 13 نيسان 1975، إثنا وثلاثون عاماً . كانت نتيجتها الحرب بعد أن شهد لبنان خضات وهزات ومعارك وثورات وتقلبات في التحالفات والتركيبات وتداخلات وتشابكات بين العوامل الإقليمية والداخلية ، وبالتالي تدخلات إقليمية ودولية في السياسة اللبنانية ومباريات على ساحتها!!

اثنا وثلاثون عاماً ، لم تبنى خلالها دولة ومؤسسات باستثناء بعض الخطوات والقرارات والانجازات التي تحققت ايام الرئيس فؤاد شهاب. ورغم وجود قيادات كبيرة في البلاد تعرف التوازنات الداخلية، والصيغة اللبنانية الفريدة القائمة على أساسها، فلم تنجح التجربة ولم ينج لبنان من خطر الانزلاقات المتتالية الى مواجهات وتحديات وصولاً الى الحرب. ولو أدرك الكبار والمسؤولون منهم في مراكز القرار في تلك الفترة أهمية فرادة الصيغة اللبنانية في هذا الشرق وربما في العالم، ولو عرفوا كيف يستفيدون من الظروف لتكريس دولة واحدة وموحدة لكل ابنائها، وبناء مؤسسات قادرة على حل مشاكلهم ، لما توصلوا الى الحرب رغم التعقيدات المعروفة.


ولا ابالغ إذا قلت إن تجربة وحيدة فريدة شهدها لبنان في تلك العقود وعلى مر العهود السياسية المتتالية، والتي أطلقت برنامجاً سياسياً للتغيير والاصلاح الديموقراطي في لبنان تجاوز الحدود الطائفية والمذهبية والمناطقية وكان نموذجاً عن وحدة اللبنانيين آلاماً وآمالاً وتطلعات. كانت تجربة القائد والمفكر السياسي الكبير الشهيد كمال جنبلاط، الذي خاض معارك سياسية كبرى في تلك الحقبة دفاعاً عن الفقراء والعمال والمزارعين والمثقفين والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية ولتأكيد انتماء لبنان الى عالمه العربي ، مؤكداً دائماً أن العروبة في مفهومه هي العروبة الإنسانية الحضارية الجامعة ، المتجاوزة كل أشكال العصبيات المذهبية والطائفية أيضاً وكل حواجز القمع والتسلط على الناس وثرواتها ومصالحها ومستقبلها، ميزة كمال جنبلاط في تلك التجربة أنه كان ناقداً لها باستمرار، لم يدّع يوماً أنها سليمة من الأخطاء والثغرات والشوائب، بل ذهب ابعد من ذلك ليقدم نفسه شفاهة وكتابة في مقالات وبيانات ناقداً شفافاً لتجربته معترفاً أمام الجميع باخطائه وسوء تقديره لعوامل معينة في مراحل نضاله وبالتالي ليقدم نفسه رجل سياسة يتعلم من تجاربه ويقف عند اخطائها ويعمل على تداركها.


أهم ما في تلك التجربة اقتناعه بفرادة الصيغة في لبنان، وحرصه على التغيير من داخل النظام، لقوانين وأنظمة لا تهز الصيغة والكيان ولا تضرب التوازنات لأن الحقوق تصل لكل الناس. ومن ضمن هذه القناعة كانت نظرته للدولة كإطار جامع لكل اللبنانيين. هي الملاذ، ومؤسساتها هي المرجع والقانون هو يحكم والناس سواسية أمامه. ولذلك تعامل على رأس المؤسسات التي أدارها يوم استلم وزارات مختلفة على أساس أنها لخدمة اللبنانيين كل اللبنانيين وليست لفريق دون آخر. والأهم من كل ذلك إيمانه بالتسوية ولطالما تحدث عن جمال التسوية . حتى وهو يتقدم كان يدرك انه سيصل الى مكان يكرس فيه تسوية ما، التسوية التي تكرس جمالها بتكريسها جمال الصيغة اللبنانية والتي تتفاعل فيها كل مكونات للشعب اللبناني فتحافظ على خصوصياتها ولا تدع هذه الخصوصيات تدمر فكرة الدولة الجامعة تحت أي عنوان من عناوين الخوف أو الهواجس أو القلق أو الانعزال او الاستقواء او ما شابه . ومن هذا المنطلق كان يتمتع بصفة اساسية من صفات القيادة وهي إدراكه المدى الذي يمكن أن يصل اليه في تحركه دون تجاوزه وبالتالي معروف اين يجب ان يقف ليكمل تلك التسوية بجمالها!!


...... من 13 نيسان 75 حتى 13 نيسان 2008 . ثلاثة وثلاثون عاماً أخرى،  شهدنا فيها خمسة عشر عاماً من الحروب. كل الحروب. حروب الطوائف والمذاهب. حروب داخل الطوائف والمذاهب. حروب الأحزاب. والزواريب،  والنفوذ والسلطة . حروب كل المخابرات على أرضنا . أقول دائماً الحرب الأهلية في لبنان في تلك الفترة كانت حرب الحروب. أعتقد أنها كانت كافية ببداياتها ومراحلها ونتائجها حتى اتفاق الطائف لنتعلم .....
.... من اتفاق الطائف 89 وحتى خروجها من لبنان نيسان 2005 كانت سوريا المقرر الأوحد في لبنان. فأدارت كل شيئ وحركت كل شيئ . وأخطأ اللبنانيون بغالبيتهم في التعاطي السلبي أو الإيجابي مع هذا الواقع، ومع ذلك كان دائماً هذا البلد جباراً . وهذا الشعب جباراً . لقد انتصر لبنان وشعبه على الحرب الداخلية، خرج منها مدمراً منقسماً فأعاد بناء نفسه ومؤسساته، وفي الوقت ذاته خاض حروباً أخرى بوجه اسرائيل وانتصر عليها. وبالتالي هو انتصر على نفسه على حروبه ثم انتصر على عدوه. كان ذلك إنجازاً استثنائياً لا مثيل له ويعطي أمـــلاً كبيراً في قدرة اللبنانيين على تجاوز المحن . لكن ذلك لم يترافق أبداً مع بناء الدولة فالمشروع الذي أطلقه الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يكتب له النجاح، كأن المطلوب كان عدم وجود دولة في لبنان، ليبقى ساحة للصراعات لحسابات إقليمية ودولية والمسموح هو هامش محدد ودائماً مهدد!! وكانت الكارثة الكبرى عند اغتيال الرجل ولبنان لا يزال يعيش تداعياتها منذ ذلك الوقت وقد وصفت بالزلزال الكبير وبلغ الانقسام حدود الخطر الكبير أيضاً مع الإقرار بأن هذا المشروع رافقته أخطاء في تحديد أولوياته وآليات تنفيذه.


.... كل الإنجازات تبددت وتهددت بما فيها إنجاز الانتصار الثاني على اسرائيل بسبب استخدام السلاح في الداخل.
... لبنان اليوم يعيش حالة انشطار سياسي. تعصف به حالات مذهبية وأصولية متطرفة خطيرة لم تشهدها من قبل وحالات طائفية وتدنى فيه مستوى العمل السياسي والخطاب السياسي ويتراجع فيه مفهوم الدولة واستشرت الفوضى وأشكال الفساد في كل مكان . واللبنانيون لا يلتقون . لا يتحاورون . لا يدركون خطورة ما يجري ....
.... لم ألتق دبلوماسياً أجنبياً إلا وقال لي: لبنان مدرسة، لبنان يعلمنا جميعاً . ما نعرفه ونتطلع اليه ونستخلصه من تجربتنا في لبنان في عملنا الدبلوماسي واطلالتنا على قضايا العالم لا يتاح لنا في أي بلد آخر . إنهم " مولعون " بلبنان حتى وهو يعيش أزماته لأنهم يتعلمون منها..
كأن اللبنانيين غير مولعين ببلدهم وهو يعيش أزماته وهو يعيش وثباته . والأخطر كأنهم لا يريدون أن يتعلموا فيه ومنه ومن أنفسهم وتجــــاربهم كما يتعلم منها الأجانب!!
للأسف كأن اللبناني الذي حقق انجازات في كل أصقاع الأرض مصمم على النجاح الفردي لا على النجاح الجماعي .
وكأن اللبناني اعتاد نمط العيش في الخارج محترماً أصول وقوانين وأنظمة وأحكام الدولة التي تستضيفه ، واعتماد نمط العيش في الداخل مســتقوياً على الدولة مستهزئاً بها!!
هل يمكن القول : لبنان يعلـّم والشعب اللبناني " المتعلم " لا يتعلم منه وفيه؟؟
أهم كلمة أقولها اليوم : لا للحرب . لا للحرب . لا للحرب . نعم للدولة . للدولة . للدولة.
مـن حق اللبنانيين أن يعيشوا في دولة تحتضنهم ومن واجبهم ان يعملـــــوا من أجلها ".

( مقاطع من مقال نشر في صحيفة الرياض السعودية بتاريخ 13 نيسان 2008 )

اليوم وبعد مئة وثلاثة أعوام على قيام لبنان الكبير ، وثمانين عاماً على استقلاله ، نقف أمام المعضلة ذاتها : اللبنانيون لا يتعلّمون . ( دون تعميم ) . لبنان في حال انشطار وانهيار . انهيار تام . الدولة . مؤسساتها . القيم . الاقتصاد . والسائد لغات التخوين والتحدي والكراهية والحقد والطلاق والفدرالية والتقسيم . لغات الإقصاء والإلغاء ومحاولات التفرّد في بيئة ، والاستقواء في بيئة ثانية ، والقلق في أمكنة أخرى على مستقبل الجميع ، إذ لا أحد سيخرج سالماً من تداعيات ما نعيشه . لبنـــان فــي فراغ رئاسي ، وسياسي ، ومؤسساتي ، وفوضى شاملة وعبث ولا مبالاة وانعدام مسؤوليات في مراكز القرار . الكل ينتظر الخارج ويلاحق ويتابع حركة السفراء الذين يتعلمون عندنا وبنا والمؤتمرات والاجتماعات واللجان الثلاثية ثم الخماسية ، ولا ندري الى أين ستصل ولنا تجربة في الحرب وصلنا الى لجان سباعية ، وأخذونا الى الطاولة في الطائف ثم بعده الى الدوحة . وإذا طرح أحدهم مبادرة داخلية عاقلة ، منطلقة من الخبرة والتجربة والحرص على ما بقي في البلد ( وليد جنبلاط ) تعامل كثيرون معها سلفاً بخفّة وعبّر بعضهم عن استحالة التوافق أو التسوية وليس لديه مشروع أو فكرة واقعية عن الحل !! الكل تقريباً يتحدث عن السيادة ويرتبط بالخارج ، أو ينتظره ، وحركة اللبنانيين في الخارج أو معه أوسع وأكبر من حركتهم في الداخل . يفاخرون باللقاءات مع السفراء في الداخل والخارج وبزيارات العواصم ، لكن غالبيتهم – من أصحاب القرار – ترفض اللقاء والحوار والنقاش في الداخل بل البعض يسخر من الفكرة.
لبنان رسالة، حالة فريدة، نكهة مميزة في هذا الشرق بتنوّعه، والحرية والديموقراطية فيه وطبيعة نظامه وتركيبته التي يجب أن تتطور دائماً . لكن هذا النمط من اللبنانيين من كبار القوم الممسكين بزمام الأمو ، وبعض صغارهم، بدل أن يستفيدوا من التجارب فيعملون لقيامة لبنان الجديد ، يصلبونه أكثر ويكرّسون فرادة: لبنان يعلّـــم. اللبنانيون لا يتعلّمون .