المقاربات الرئاسية المعتمدة من معظم الأطراف السياسية المكوّنة للمجلس النيابي لا ترقى إلى حجم المسؤولية الذي تفترضه اللحظة السياسية والاقتصادية الراهنة بكلّ تحدّياتها ومصاعبها ومشاكلها.
ويكاد هذا الوصف ينطبق على الكتل المصطفّة على ضفّتي الصراع في ما كان يُسمّى في حقبة سابقة 8 و14 آذار. في محور الممانعة الذي يلتقط أنفاسه إقليميّاً بعد الانفراج السعودي- الإيراني والانفتاح العربي التدريجي على سوريا، يبدو الإصرار على التمسّك بترشيح وحيد دون سواه (وهو لم يعلن ترشيحه رسميّاً بعد بالمناسبة) والامتناع عن الدعوة لجلسة الانتخاب والإصرار على «تطيير» النصاب القانوني، يبدو غير متلائم تماماً مع طبيعة اللعبة الديمقراطيّة.
وأكثر من ذلك، فإنّ هذه الممارسة الخطيرة تكرّر التجربة السيّئة التي سبق وحصلت في العام 2016 التي أفضت في نهاية المطاف إلى انتخاب العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة، وغنيٌ عن القول إنّ اللبنانيين ما زالوا يعانون من المفاعيل السلبية لهذا الخيار رغم مرور أشهر على انتهاء الولاية الدستورية في تشرين الأول 2022.
للتذكير، مارست آنذاك قوى الثامن من آذار وحلفاؤها التعطيل المنهجي لنصاب جلسات انتخاب رئيس الجمهورية معتمدة سياسة الإنهاك بغية إيصال مرشّحها الأوحد إلى الرئاسة الأولى. إستدام الشغور الرئاسي لنحو عامين ونصف بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق العماد ميشال سليمان.
طبعاً، الخطوات غير المدروسة للقوى المقابلة التي استند بعضها إلى النكايات قدّمت الرئاسة على طبق من فضّة للرئيس عون وكان ما كان ممّا يذكره اللبنانيون من عهد يتحمّل الجزء الأكبر من المسؤوليّة عن الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وعن فصل لبنان عن محيطه العربي فضلاً عن تأجيجه الخطاب الطائفي والعنصري على الكثير من المستويات.
قد لا يكون الوقت ملائماً اليوم لإجراء قراءة نقدية شاملة لتلك الحقبة السوداء التي تتوالى فصولها (ولو أنّ هذا التمرين ضروري لأكثر من سبب)، ولكن فليستفاد على الأقلّ من تلك التجربة لتلافي تكرار الخطيئة السياسية ذاتها وجرّ البلاد نحو مغامرات جديدة ستكون أكثر إيلاماً وأشدّ تدميراً وستفوّت الفرصة الانقاذيّة التي تلوح في الأفق.
من ناحية أخرى، وعلى مقلب «القوى التغييريّة»، لم تكن الصورة التي قدّمها النواب التغييريون أكثر ورديّة، وهم الذين حالت إنقساماتهم العميقة دون الاتفاق على مرشّح واحد في ما بينهم أولاً، ومع قوى المعارضة الأخرى ثانياً، وهو ما أهدر فرصة تحقيق توازن أكثر قوّة مع فريق الممانعة الذي لطالما كان يتغنّى بتماسكه في المنعطفات الكبرى وأمام الاستحقاقات الدستوريّة المتلاحقة.
لقد تراوحت مواقف «نواب التغيير» بين قلّة الخبرة والصبيانيّة والنرجسيّة، وحالت دون إحداث تغيير نوعي كان منتظراً ومأمولاً، وساهمت في إطالة أمد الأزمة السياسيّة التي تتجلّى راهناً في الشغور الرئاسي، وهو ليس رأس جبل الجليد للمشاكل المتراكمة التي تبقى دون حلّ ويدفع أثمانها الباهظة المواطن وحده.
لقد آن الأوان لأن يدرك جميع أطراف النزاع بأنّ توفير أوسع قاعدة من التفاهم الوطني حول شخصيّة الرئيس العتيد يزيل سلفاً الكثير من الألغام التي قد تعترض عهده بعد انتخابه. إذ كيف يتوقع محور الممانعة، على سبيل المثال، أن يحكم مرشّحه في ظلّ مقاطعة مسيحية شبه شاملة له؟ صحيح أنّ الرئيس هو رئيس لجميع اللبنانيين ولكن من غير المنطقي أيضاً «تهريب» انتخاب أية شخصيّة لا تحظى بالدعم الواسع من كتل برلمانية متنوعة وليس فقط من الكتل المسيحية. القاعدة نفسها قد تنطبق بشكل معاكس على مرشّحين رئاسيين آخرين.
أخرجوا من هذه اللعبة المدمّرة. ثمّة شخصيّات عديدة تمتلك كفاءات عالية قادرة على الوقوف على مسافة واحدة من الجميع وإنقاذ البلاد!