Advertise here

كلمات في الأديب سلمان زين الدين

11 نيسان 2023 11:11:00

ينزلُ سلمان زين الدّين عن شجرة التّعب بعد أربعةٍ وستّين سنة من دونِ أن يجرحَ غصنًا، أو يتركَ ندبةً على ثمرة، أو يمنعَ نسمةً من أن تشاغلَ العنقود، أو تداعبَ شَعرَ الغصون. ويطوي دفاتر الهمّ، ويدخلُ في رياضةٍ روحيّةٍ واسترخاءٍ داخليّ كما تدخلُ سفينةٌ في البحر لتنقّبَ عن كنوزٍ مُودعَةٍ في البعيد، زرعها يومًا في لهاثِ الطّفولة، وحان الآن موعدها للحصاد. وتعلنُ شمسهُ اليوم رغبتها في السّياحة خارج الفضاء المرئيّ بعد أن كانت تُشرقُ على إيقاعِ النّظام والثّبات، وتنامُ على موسيقى الحبرِ والتّقارير. وتضوّأ قناديلهُ المتبلّرة عتبات السّنين متحدّيةً أسراب الرّيح، فتذهبُ الرّياح وتبقى القناديلُ مشتعلة كما الحبّ، ومضيئة كما السّلام وهو يعبرُ النّفس في طريقه نحو التّوحّد بالأثير. ثمّ تستيقظُ ضمائره المنفصلة لتعلنَ اتّصالها وتناغمها مع حركة الكون، وثغاء التّاريخ، وعناد الأودية، وترانيم الأبديّة.
  تحاصرهُ السّتون فيفرُّ إلى فضاء أحلامه حيث قفصُ الحريّة كونٌ واسعٌ كالظّنّ، والرّقص، عرسٌ وسعَ الفراغ الكونيّ، فيتباطأ الزّمن، فإذا السّتون خمسٌ أو يزيد؛ خمسٌ معجونةٌ بالغبطة والطّفولة الهاشلة خلف الفراشات، وأبراج الرّمل، وخرير القلوب.
  منذ اثنتين وستّين سنة ترافقنا، وتطافلنا، وطوينا أردية السّهول والحقول، وأوجعنا الينابيع بالحصى، وأمطرنا العصافير بالصّراخ، وفطمنا النّحل عن أفواه الأزاهر، وهصرنا الحياة في كأس الشّيطنات. ثمّ كبرنا، وأصابتنا لعنةُ الأجنحة، فذهبَ كلٌّ في طريق. ثمَّ جمعتنا لوثةُ الأدب والشّعر، فعاد النّغمُ إلى أوتاره الطّفلة. ثمَّ عصفت بنا الحياة من جديد، فيمّمَ هو شطرَ التفتيش التّربويّ، وأخفقتُ أنا في العبور إلى ما أحبّ، وساكنتُ الوظيفة كمن يساكنُ قاتله. وصالَحَ هو نفسه، ينقدُ الحَبَّ عن بيدرِ الكلمة، ويُوقظُ فيها روح العاصفة، ويُكثرُ من ولاداته باعثًا فيها من روحه كصائغٍ تقلقلهُ لمعة السّحر في معصم الزّمان، أو صَنَّاعٍ يُوشّي بيته بالأرياح، ويربّي كلماته بنبلٍ وقسوة تربية النّبلاء حتى لا تحيدَ عن جادّة الإبداع. وحجز لنفسه مقعدًا في سفينة الأدب المبحرة نحو الشّطوط المغلَقة. ومع ذلك ظلَّ يمارسُ وظيفته باحترافٍ وشغف؛ مفتّشًا ومرشدًا وعارفًا ما يريد وذلك، تحت سقف القوانين التي تُحيي ولا تُميت، ثمَّ حجزَ لنفسه مكانًا ثابتًا في سفينة المفتّشين الّذين عرفتهم وعايشتهم، والّذين كانوا أمثلةً في الأخوّة والزّمالةِ يمارسون الوظيفةَ بأخلاقٍ وترفّعٍ وتفانٍ. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر منهم مَن سبقَ إلى التّقاعد كالأساتذة: سمير علامي، صلاح الدّنف، جوزف سليم، سامي عامر، وعميدهم شفيق يحي. ومنهم مَن احتضن التّراب، وأبقى أبوابَ الدّعاء والرّحمة مفتوحة ومنهم محمد كاظم مكّي، وعدنان مهنّا، وجورج الحدّاد، وغيرهم، قبلَ أن يأتي زمانٌ على التفتيش تبهتُ فيه الوظيفة ويؤول بعضُ الأمرُ إلى غيرِ أصحابه.  
  ومع ذلك، فقد حمل الأستاذ سلمان الأمانة بثقة واقتدار، وأعطاها من قلبه أناقةً وحبًّا، ومن عقله شغفًا واحترامًا. فهو لم يشرب من ماءً ويعكّر صفوه، ولم يرمِ رميةً في غير موضعها. عاش التّجربة، فاختمرت بين يديه؛ عجينةً مقمّرة، وألهم مجموعةً من زملائه جودة العمل بكلّ مندرجاتِ العمل الوظيفيّ.
  وأتساءل: لماذا أكتبُ في كلّ مناسبةِ تقاعدِ زميل؟! ومَنْ يكتبُ لي عندما تلفحني رياح التّقاعد؟! الكتابة عندي فعلُ إيمانٍ بالوجود، وطوقُ نجاةٍ من الغرق والموت، وحافزٌ للاستمرار.
وأتساءل وأنا على أبواب السّتين، وأنا أرنو إلى إنسانٍ أُوزّعُ عليه ما بقي من أيّامي الباقيات: مَنْ يعطيني أيّامًا أضيفها إلى روزنامة عمري، علّني أبلغ باب الحريّة فأرتاح، وأُريح، وأنجو، بعدما جفّ نبعُ الشّغف، واستوطن النّسيان والأعشاب روضة الذّاكرة.  
  تقاعدّا مباركًا أيّها الصّديق، وأيّامًا مجلّلةً بالرّاحة والإبداع وأعراسِ الكلمات.