Advertise here

الخلفيات العقائدية لأخطر صراع في الكيان الإسرائيلي

05 نيسان 2023 10:15:29

جنح الصراع القائم في إسرائيل بين المتدينين والقوى اليسارية والعلمانية نحو مسارٍ جديد لم يسبق أن شاهدناه من قبل، وهو يُنذر بتفكُّك الدولة التي أنشئت غصباً قبل 74 عاماً على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

 

وتهدد الخلافات بين المجموعات المتباعدة بفرض معادلات قد يخسر معها الكيان مكتسباته السابقة، لأن الانقسام الحالي لم يبقَ في إطار التنوع السياسي الموجود في الشارع الإسرائيلي، بل وصل الى حد التنازع بين مشروعين متباعدين، تعمل مجموعات "اليهود الأشكيناز" لتحقيق واحد منهما، بينما تجهد مجموعات "اليهود السفارديم" وإلى جانبهم غالبية اليهود الشرقيين، أو "اليهود المزارحيم" لتحقيق المشروع الآخر.

 

أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالاتفاق مع حلفائه في الائتلاف اليميني المتطرف سباقاً يهدف الى تقليص صلاحيات المحكمة العليا، وهذه المحكمة بالصيغة الموجودة حالياً لها دور سياسي وقضائي متقدِّم لعدم وجود دستور للدولة، وهي قادرة على نقض القوانين الصادرة عن الكنيست، وعلى تعطيل بعض قرارات الحكومة، ولها دور أساسي في ضمان مقاضاة المسؤولين، وحماية المحاكم الأقل درجة في مواجهة القيادات السياسية والإدارية والعسكرية النافذة.

 

ربما يكون أحد أهداف نتنياهو من وراء طرح تعديل قانون المحكمة العليا؛ النفاد من حكم قد يصدر ضده بعد الادعاء عليه بتهمة تلقي رشاوى والاحتيال وخيانة الأمانة، وفق ما جاء في مذكرة الادعاء الصادرة عن النائب العام افيخاي ماند في 21/11/2019، ومسار المحاكمة ما زال مستمراً، والحكم إذا ما صدر يمكن تمييزه أمام المحكمة العليا، وغالبية قضاة المحكمة العليا لا يتعاطفون مع نتنياهو، وهو يقول عنهم إنهم يساريون متشددون.

 

ومن المعروف عن نتنياهو أنه شخصية "ميكيافيلية" يعمل لتحقيق مبتغاه بأي وسيلة، بما في ذلك استخدام نفوذه السياسي داخل البرلمان والحكومة، أو الاستفادة من وضعه العائلي ومن دور زوجته تحديداً، وهو بالفعل كان استفاد من هذه الوضعية عندما اتفق مع زوجته سارة على السكوت عن إشهاره لعلاقة عابرة له مع امرأة أخرى، لتقويض جهود منافسه في حزب ليكود "الأشكينازي" ديفيد ليفي الذي كان يحضر له فضيحة بهذا السبب قبل 30 عاماً.

 

حلفاء نتنياهو في الائتلاف اليميني لهم أهدافهم الخاصة أيضاً من وراء دعم تعديل قانون المحكمة العليا، لأن هؤلاء يخافون من إجهاض المحكمة لأي قانون قد يعفي النشطاء المتدينين من الخدمة العسكرية الإلزامية، وهو ما حصل في السابق بالفعل، إضافة الى تلاقي هؤلاء مع صقور حزب ليكود الذين يطالبون بتوسيع الاستيطان في أراضي الضفة الغربية الفلسطينية، بينما المحكمة العليا بتركيبتها الحالية تمنع ذلك.

 

تتركز النقاط التي يتناولها التعديل على قانون المحكمة العليا، الذي تقدمت به حكومة نتنياهو، على أن يكون للحكومة صلاحية أكثر قوة في عملية تعيين القضاة، وأن يكون الرأي الحاسم عند الخلاف بين الفريقين القضائي والمدني داخل اللجنة التي تُسمي القضاة للحكومة، وليس للقضاة كما هو عليه الحال اليوم، كما ينص التعديل على تقويض قدرة المحكمة على تعطيل نفاد بعض القوانين وعدم نقض القرارات الحكومية، وتحويل المستشارين القانونيين في الوزارات الى موظفين تعيّنهم الحكومة.

 

الرأي العام المتابع؛ تفاجأ بحجم الاعتراضات الشعبية العارمة التي ترفض التعديلات على قانون القضاء، بحيث وصلت الاحتجاجات المتواصلة الى حد تهديد وحدة الدولة ومستقبلها، وأدى مشهد التوتر الى تدخُّل مباشر من الرئيس الأميركي جو بايدن، وكان مضمونه محاولة ثني نتنياهو عن متابعة السير بالتعديلات، لأنها تنسف غالبية مهام المحكمة العليا وبالتالي تحدث تغييراً على النظام الديموقراطي المعمول به في إسرائيل بحيث لا يبقى أي رادع أمام جنوح الأكثرية النيابية، ويصبح في إمكانها تشريع ما تشاء في ظل عدم وجود دستور، وحكومة نتنياهو الحالية تملك أكثرية بسيطة لا تتجاوز 64 نائباً مقابل 56 نائباً للمعارضة.

 

تتهم قوى الائتلاف اليميني الذي يتزعمه نتنياهو، وهي بمعظمها تنتمي الى اليهود الأشكيناز، معارضيها الذين يرفضون تعديل قانون القضاء؛ بأنهم مجموعات يسارية وعلمانية لا يهتمون لمستقبل الدولة، لكن الائتلاف الحاكم فوجئ بتأييد واضح من الجيش لمعارضي التعديل، لا سيما بعدما قرر نتنياهو إقالة وزير دفاعه يوآف غالانت حين أعلن الأخير معارضته لطرح التعديل أمام الكنيست، وكادت التظاهرات العارمة أن تجتاح المقار الحكومية وتشلّ البلاد برمتها الأحد في 26 آذار (مارس) 2023.

 

الإدارة الأميركية وغالبية الدول الغربية الحليفة لإسرائيل ترى في تعديل قانون المحكمة العليا أنه تهديد للديموقراطية في إسرائيل. والقوى المعارضة في الداخل تعتبر أن نفاد التعديل يقضي على الحريات العامة، ويفرض ديكتاتورية الأغلبية النيابية.

 

مستقبل الكيان في خطر وليس نتنياهو فقط

يتخوف رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك مما سماه "زوال إسرائيل" وهو قال في حديث لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية: "إن الدولة الآن في العقد الثامن، ويُخشى أن تصيبها "لعنة العقد الثامن" وتتلاشى كما حصل مع اثنتين من سابقاتها اليهوديات عبر التاريخ". وهناك تجارب مشؤومة مع دول أخرى حصل فيها انهيار في العقد الثامن من عمرها. ففي الولايات المتحدة وقعت الحرب الأهلية بعد مرور 80 عاماً على الاستقلال الأميركي، والاتحاد السوفياتي تفكّك في العقد الثامن بعد الثورة البلشفية أيضاً، كما تحولت ألمانيا الى دولة نازية وانهزمت في الحرب خلال العقد الثامن من ولادتها.

 

من المؤكد، كما يقول عارفون عن كثب بالشأن الإسرائيلي، أن مستقبل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في خطر، فهو إن أصرَّ على طرح التعديلات في جلسة الكنيست المقرر عقدها في 30 نيسان (أبريل) الجاري سيواجه اعتراضاً شعبياً وربما عسكرياً عارماً، وقد تخرج الأوضاع عن السيطرة، ما يُهدد باندلاع مواجهات أهلية قاسية، قد لا تتوقف بسهولة، وإذا صرف النظر عن طرح القانون، قد يواجه مصيراً قاتماً، لأن المعطيات تؤكد أن حكماً قضائياً قاسياً سيصدر بحقه جراء الدعوة المقدمة ضده منذ العام 2019.

 

وقوف الإدارة الأميركية بقوة الى جانب المعارضين لتعديل قانون القضاء، كان صفعة غير متوقعة لنتنياهو، وهو حاول توجيه رسالة قاسية للرئيس بايدن، واعتبر موقفه تدخلاً في الشؤون الداخلية لإسرائيل، ولكنه عاد ورضخ للضغوط الأميركية، وأجّل طرح القانون على التصويت في جلسة الإثنين 26 آذار (مارس) الماضي، واعتبر أن العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل لا يمكن أن تتأثر بأي موقف وهي ثابتة وراسخة. وهذا الموقف يعبّر عن حالة من الخوف والضعف، أكثر مما يعبّر عن مشاعر صادقة عند نتنياهو.

 

للمرة الأولى في تاريخ "دولة إسرائيل" تحصل مثل هذه الحدِّية في الصراع، وهو أخذ أبعاداً عقائدية واضحة، بحيث يتمسك "اليهود الأشكيناز" الغربيين، والذين يتحدرون بغالبيتهم من ألمانيا وفرنسا بضرورة إخراج الدولة من القيود التي تضعها المحكمة العليا على السلطتين التشريعية والتنفيذية، بينما يعتبر "اليهود السفارديم" - الذين يتحدر معظمهم من دول حوض البحر المتوسط ومن آسيا الوسطى - أن تغيير مهام المحكمة العليا يلغي كل الضمانات أمام الأقليات، ويقوِّض الحياة الديموقراطية في إسرائيل.

 

الى مشهد آخر مختلف بعد 30 نيسان (أبريل) المقبل، قد تتوضح ملامح أخرى عن مصير نتنياهو وعن مصير الكيان الغاصب برمته.