Advertise here

تأملات في ربيع لم يزهر... البعث يرفع المصاحف! 3/3

04 نيسان 2023 16:57:48

قطعَ البعث رحلة طويلة حتى وصل إلى السلطة. كان في عام 1957 وحدوياً يطالب بوحدة سوريا ومصر، وانخرط فيها ثمّ غادرها عام 1959، لينقلب على الوحدة عام 1961 مع توقيع اثنين من قيادته على "وثيقة الانفصال" –صلاح البيطار، وأكرم الحوراني – وانسحب هذا أيضاً على "الجنّة العسكرية" في الحزب، والمؤلّفة من "الثلاثي العلوي": المقدّم محمد عمران، والمقدّم صلاح جديد، والرائد حافظ الأسد، حيث التقى الأخير، بعد أن عاد من القاهرة، بقائد انقلاب الانفصال، العقيد عبد الكريم النحلاوي، مبايعاً ومبدياً استعداد اللجنة الآنف ذكرها لوضع إمكانياتها في خدمة الحركة، وقد جاراه النحلاوي مرحّباً ليعرف أسماء الضباط البعثيين، فلمّا تمّ له هذا تولّى على الفور إبعادهم من الجيش لأنّه لم يكن يثق بولائهم، وسنكتشف فيما بعد أنّ النحلاوي كان نبيهاً ويقِظاً أكثر من الناصريين!

 بعد إجراء النحلاوي هذا، انقلب البعثيّون إلى مناهضين "لنظام الانفصال"، ومدّوا جسورهم نحو الناصريين الذين رحّبوا بهم.

البعثيون يرفعون المصاحف

بعد سيطرة قوات الانقلاب على العاصمة دمشق، التي سبق وذكرنا أسماء قادتها وهويّتهم السياسية في الحلقة الثانية، توافد إلى قيادة الأركان صبيحة 8 آذار الضباط البعثيّون المسرّحون، وفي طليعتهم صلاح جديد، وحافظ الأسد، وكانا على علم مسبق بالتحرك من الناصرين  الذين اعتبروا البعثيين "رفاقاً" وشركاء في القضية. وخلال تشكيل القيادة الجديدة طلب جديد أن يكون مديراً لإدارة شؤون الضباط فكان له ما أراد، ومن هذا الموقع بات صلاح جديد المفتاح الذي فتح الأبواب لعودة الضباط البعثيين المسرّحين إلى الجيش، فكان يجري استقدامهم بنداءات عبر الإذاعة، ويتولى هو بحكم منصبه توزيعهم على القطعات العسكرية المقاتلة.

 تجدر الإشارة إلى أنّ "الرائد" حافظ الأسد آنذاك أُنيطت به قيادة قاعدة الضمير الجوية. بعد أشهر رُفِّع إلى عميد، وبينما البعثيّون يتسلمون التشكيلات القتالية، عصب الجيش، كان الضبّاط الناصريّون للمفارقة ساعين لفرزهم إلى مواقع مريحة، مثل قيادة التجنيد، أو ملحقين عسكرين!!

 وهكذا أصبح مركز الثقل في الجيش بيد البعث. خلال هذه المدة الانتقالية جارى البعث الناصريين في المسعى للوحدة مع مصر بقيادة عبد الناصر، وكانت بعض قيادته جزءاً من الوفد السوري الذي توجّه إلى القاهرة للبحث في إعادة الوحدة، وقاموا بالتوقيع على ميثاقها في القاهرة فيما عُرف باسم "ميثاق 17 نيسان"، والذي وصفه ميشال أبو جودة "الانفصال الناصري"!! وهو يغطي الحدث من القاهرة، وكان على حق بلا شك، فقد تبيّن فيما بعد أنّ الأمر كان تسويفاً من البعث لكسب الوقت، وقد جاراهم فيه الناصريّون عن غير إدراك.

وهكذا لم يأتِ خريف 1963 إلّا والناصريّون بين سجينٍ أو قتيل، وزياد الحريري منفياً!!

      
 تأملات

تساءلنا في الحلقة السابقة عن كيف استطاع البعث أن يتسلّل ويستلم السلطة منحّياً الآخرين. كيف، وعدد البعثيين صبيحة 8 آذار 1963، لم يتجاوز الألفين في حين أنّ الناصريين كانوا الأكثر عدداً ووزناً، لكنهم غثاءٌ كغثاء السَّيل؟ حالة شعبوية عاطفية تفتقر إلى الخبرة فيما أُطرها الحزبية مخترقة من البعث بالذات! كما وكانوا يفتقرون للدينامية معتبرين أنّ رصيدهم، جمال عبد الناصر، كافٍ (ليناموا في العسل)، وهذا غيضٌ من فيض!! أمّا البعث، وبالتحديد رعيله الأول، الذي وقعت عليه مهمة تمكينه في الحكم، كان للأمانة والموضوعية،  شديد الانضباط مقتنعاً، عن إيمان، بأنّ لا سبيل للوحدة إلّا عبر "دولة البعث"، وبأنّ عبد الناصر مرحلة عابرة في التاريخ، وإذا لم يكن ممكناً استيعابها فيجب تجاوزها!! لكن سرعان ما اتّضح هشاشة هذه الفكرة عندما انقلب البعث على البعث!! بدءاً من حركة 23 شباط 1966، يوم انقلبت مجموعة من العسكر ذات طابع طائفي على "القيادات التاريخية" للحزب، مثل ميشال عفلق، وصلاح البيطار، ومنصور الأطرش، وشبلي العيسمي، والدكتور منيف الرزّاز، وغيرهم. ثم جاء الافتراق بين البعثَيْن -السوري والعراقي-  ، افتراقاً يحمله حقدٌ وكراهية لدرجة أنّه كان مدوّناً على جوازات السفر السورية، "صالح لجميع دول العالم عدا إسرائيل والعراق" !!

 لا شكّ بأنّ التاريخ سيسجّل بالخط العريض أنّ البعث، بشقّيه السوري والعراقي، كان مشروع سلطة وحسب، رغم نبل المبادىء والأهداف التي حملها. ولعلّ هذا يضعنا للوهلة الأولى في الاستنتاج بأنّ المبادئ تكتسب أهميتها ليس من صيغتها، أو محتواها الإنشائي، وأنّما بما تطبعه  في نفوس معتنقيها من  مناقبيةٍ في الممارسة السياسية والسلوك الشخصي.  وقد عبّر بهذا المعنى كمال جنبلاط في قوله: "الشخص لا يمكن أن ينفصل عن المبدأ، ولا يمكن أن ينفصل المبدأ عن الشخص”. ويبقى السؤال، لماذا كان هذا السقوط هنا وهناك؟! أمرٌ يستحق التأمل ولا يمكن اختزاله ببضعة أسطر. غير أن المفتاح هو في أنّ نضع نصب عيوننا أنّ للتاريخ عقل، وأنّ القادة مثل عبد الناصر، ومهما علا شأنهم، وأنّ مبادئ كالبعث، لا يمكنها أن تحرّك التاريخ إلّا إذا كانت تحمل في ثناياها قابلية الحركة. ولا شكّ بأنّ "عقلية القبيلة"، ما زالت تعمل في مورثاتنا، وتكفّلت بالقضاء على كل ما هو واعد وجميل؛ أُسقطت "الوحدة" في مستنقع الإقليمية، وسقطت مبادئ البعث في مستنقع القبيلة المستجدّة: "المذهب" أو "الطائفة"!! 
 

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".