Advertise here

تأملات في ربيع لم يزهر ..."سقوط المشاريع" 3 /1

02 نيسان 2023 06:05:00 - آخر تحديث: 02 نيسان 2023 06:09:39

يطالعنا آذار في كل سنة بذكريات تنكأ الجراح، آخرها اغتيال كمال جنبلاط شهيداً على يد الغدر والحقد، ومعه سقط أول مشروع حضاري لإرساء دولة علمانية  في شرقنا المتوحش بالتخلّف والاستبداد، ليدخل بعده لبنان في نفقه المظلم الذي ما برح فيه! 

 كما وشهد مشرقنا العربي في الثامن من آذار حدثين مفصليين: الأول عام 1920 مع إعلان قيام "المملكة العربية السورية" جامعةً بلاد الشام وعلى رأسها الملك فيصل، ابن الشريف حسين، وعاصمتها دمشق؛ والثاني عام  1963، فيما أُطلق عليها "ثورة 8 آذار"، وهو في الحقيقة انقلاب عسكري أراد منه أصحابه إعادة الوحدة السورية-  المصرية التي انفصمت عراها في 28 أيلول 1961. 

الحدثان كان يُمكن لأي منهما لو قُّدر له النجاح أن يشكّل منعطفاً تاريخياً يقلب وجه مشرقنا العربي. أما "المملكة العربية السورية" فقد انتهت بزحف غورو على دمشق، ولم يكن بوسع بطولة يوسف العظمة ومَن معه من جيش فتيٍ قليل التسليح والخبرة أن يوقف زحف جيش فرنسي جرّار ،فقد كان التآمر على مشرقنا وتقسيمه  في "سايكس- بيكو" أكبر من أن تحول دونه إمكانيات بلادنا المتواضعة. أما حلم إعادة الوحدة مع مصر كما أرادها صانعو انقلاب آذار 1963، فقد كان في متناول اليد لو أُتيحَ له الهمّة والإخلاص بالآن معاً، غير أنّه حلمٌ تبدّد على يد "حزب البعث" الرافع لشعار الوحدة! أمّا كيف، فهذا ما سنبيُّنه في الحلقتين الثانية والثالثة من هذا المقال. وخلاصة القول فقد تبدّدت الآمال، وأُجهضت الأماني مرةً بيد الخارج، ومرةً بأيدٍ عربية، للأسف.
 

المملكة العربية السورية

جاءت "المملكة العربية السورية"  كأول ملكية دستورية - "ملكية مدنية نيابية" بحسب دستورها-، وقد وضعته آنذاك هيئة تأسيسية - تشريعية انتُخبت عام  1919 ، وعرفت باسم "المؤتمر السوري العام"، ممثلاً لكل أقاليم بلاد الشام. ويدلّنا النص على العقل المنفتح  لأصحاب الدستور.

 ويلفتنا أكثر أنّه لم يرد في الدستور دينٌ للدولة انسجاماً مع هوّيتها المدنية السالف ذكرها، إنّما الهوية الدينية جاءت حصراً بالملك، وهي "الإسلام" بطبيعة الحال. وهذا وضعٌ متقدم عن كل الدساتير التي جاءت بعد عدة عقود لعدة بلدان عربية بعد نيلها استقلالها. كما وأنّه من المُلفت ما ورد من أنّ حق الاقتراع في انتخاب السلطة التشريعية - البرلمان - محصورٌ فيما أطلق عليهم "ناخبو الدرجة الأولى"، وهذا بتقديري أمرٌ يبدو منسجماً مع طبيعة ذلك الزمان، وقد يجده البعض منسجماً  بالمطلق مع دور النُخب في التوجيه والقيادة، والتي عبّر عنها روسو بالقول: "رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب، بل في وعي الناس".


تأملات

لعلّ ما سبق يثبت هشاشة مبرّرات الانتدابات التي فرضتها عصبة الأمم على بلادنا بذريعة أنّ شعوبها غير مؤهلة لبناء دولة حديثة!! وبدليل أنّ الانتداب الفرنسي نفسه أرسى وبلور مستويات أدنى من الطائفية والجهوية، والتي على أساسها قسّم سوريا إلى خمس دويلات طائفية!!  

 كذلك يطرح ما سبق المقارنة بين تلك التجربة الديمقراطية القصيرة العمر (1919-1920) وبين ما جاء بعدها بعقود من (الحقبة الوطنية)، وحمل  تراجعاً في مفهوم الدولة وبالتالي هبوطاً في الممارسة.  كما وكشف في موقع آخر أنّ مقولة تخلّف أمّتنا مردّه الحقبة العثمانية هي كذبةٌ كبيرة، وحيث تقفّت النُخب التي كانت وراء "المملكة العربية السورية" أسلوباً عصرياً يدل على عدم تماهيها في الثقافة العثمانية التقليدية بوصف السلطان "خليفة المسلمين"، فقد حدّد الدستور الآنف ذكره صلاحيات الملك في مادته السابعة: "الملك محترم وغير مسؤول"، أي أنّ ممارسة الحكم منوطةٌ بالحكومة والبرلمان. لقد قطع الانتداب تطوراً اجتماعياً وسياسياً واعداً لتأتي مخلفاته بكيانات مضطربة، جاءت تركته اللبنانية هيكلاً طائفياً غير ملتحم "يتكئ على العاصفة والريح"! على حد وصف الرحابنة. أمّا في سوريا فقد جاءت ثلاثة انقلابات عسكرية فيها بقيادة ضباط من "جيش الشرق" الملحق بالجيش الفرنسي، وأولها انقلاب حسني الزعيم، والذي جاء للمفارقة في  آذار 1949! لتكرّ السبحة من بعده. 

هذه الانقلابات أسّست لعسكرة السياسة في سوريا، وبحيث باتت الحقبة الديمقراطية الاستثناء في تاريخها السياسي. كما لم يكن العراق أفضل حالاً، فقد جاء انقلاب عبد الكريم قاسم الدموي ضد الملكية في تموز 1958 ليفتتح مسلسلاً من الانقلابات الدموية تناهى إلى مشهد أفدح حيث الاحتلال الأميركي ثم الإيراني والإرهاب صنيعتهما!، حتى أنّ من بين العراقيين من ترحّم بحسرة، وما زال، على زمن الملكية التي شهدت ازدهاراً في الديمقراطية وحرية الصحافة وتفتح الفكر. أما في (سوريا البعث)! فقد جاء التراجع بحجم الكارثة الحضارية، وهو أمرٌ سنأتي على ذكره في الجزئين  الثاني والثالث من هذا المقال.

*الحلقة الثانية: انقلاب 8 آذار 1963 وتسلق البعث

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".