Advertise here

بين الفيديرالية والشعبوية

30 آذار 2023 13:37:14 - آخر تحديث: 30 آذار 2023 14:33:06

تعود نغمة الفيديرالية عند كل منعطف عندما تصل بعض الأحزاب أمام حائط مسدود يمنعها من تحقيق الوعود الكبيرة التي تعطيها لمناصريها، فتسلك عندها طريق البحث عن حلول سياسية ترضي جمهورها وتسمح لها بالحفاظ على الانطباع بأنها الوحيدة القادرة على حماية مصالحهم.

 يتفهم البعض هذا السلوك الذي قد يتبعه أي طرف للاستمرار في الحياة السياسية، ولكن الذهاب إلى المطالبة سواءً بالطلاق، أو بإعادة النظر بالنظام السياسي، مع التلميح بأحلام التقسيم والانفصال، لا يحصل من دون تداعيات وخيمة. وتظهر أولى معالم هذه التداعيات بالأحاديث على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام، وحتى في الشارع، من قِبل بعض مناصري هذه الأحزاب مع كل ما اكتسبوه من عنصرية  وإسلاموفوبيا تكشف المستور وتؤجّج الانقسامات الطائفية البشعة التي تظهر في ردّات الفعل الموازية لها في التطرف. و هذا "الفكر" كان من المفترض أن تنطفئ تداعياته عند انتهاء الحرب الأهلية القذرة التي أعادت لبنان إلى القرون الوسطى وكلّفته مئات آلاف من الشهداء والقتلى والمصابين والمهجّرين.
 
كما تعمد هذه الأصوات إلى اتهام أبناء طائفتها الذين لا يؤيدون أفكارها بال"ذمّية" أسوة بأسلوب التكفير الذي تعتمده المجموعات المتشددة، و التي تحلّل دماء المسلمين الذين لا يتقيّدون بأفكارها المتطرفة.

و هذا الاتهام السخيف يناقض تماماً الشعارات التي يرفعها قياديو أحزابهم عند تحالفهم مع قوى سياسية إسلامية تصل بعض الأحيان إلى حدود ديماغوجية غير موصوفة في مزايدتهم في مواقفهم المؤيدة للقضايا العربية القومية والتاريخية، مما لا يثنيهم عن الذهاب بعيداً في اتّهام هذه القوى نفسها بالطائفية والتطرّف عند اختلافهم معها بانتظار نيل بعض المكاسب في التعيينات الإدارية وغيرها ليعودوا ويتحالفوا معها. وهذا يفسّر السباق على نيل أكبر "حصة" مسيحية في الانتخابات النيابية، والبلدية، والنقابية، والطلابية، لكي تكبر معها الامتيازات التي قد تحافظ على وجودهم وتؤمن استمراريتهم بعيداً كل البعد عن الشعارات والمزايدات الطائفية التي يرفعونها أمام مناصريهم لإثارة حماستهم. والتبرير عن اضطرارهم إلى التناغم مع الدعوات الطائفية لاستيعابها ولامتصاص غضب الشارع لئلا يخرج عن السيطرة ويأخذ البلد إلى المجهول، دائماً جاهز أمام محاوريهم. فيستمر هذا التصرّف منذ أكثر من 15 سنة بالتزامن مع هجرة آلاف المسيحيين وتراجعهم على كل المستويات، سيّما الديموغرافية والجغرافية، والاقتصادية، والثقافية منها.

يأتي هذا الأسلوب في التعاطي ليحاول منع أي أمل بولادة فكر جديد مبني على الحداثة والتطور والانفتاح يواكب التطورات النوعية والسريعة التي تحصل في العالم العربي قبل فوات الأوان، والذي يجب تشجيع ولادته بعيداً عن الانغلاق والانزواء الذي لم يقدّم شيئاً سوى الحروب الداخلية والهجرة وتراجع الدورالسياسي و الوجودي للمسيحيين في لبنان.

و ان كان شكل المسيحيين في لبنان نقطة تمايز في العالم العربي باختلافهم وبتنوّعهم الثقافي وبتقديم صورة عن بلد عربي تتعايش فيه الطوائف في نظام برلماني فريد من نوعه يضمن الحريات العامة والاقتصاد الحر، ويشكّل نقطة تلاقٍ بين الشرق و الغرب، فعليهم ابتكار حاجات جديدة و متجددة لضرورة وجودهم السياسي والحضاري في هذا الجزء من العالم. وهذا يبدأ بالتأكيد بالتمسك بدولة المؤسّسات وبالعمل سريعاً على انتخاب رئيس للجمهورية بدل اختلاق العراقيل التي ستؤدي إلى انهيار ما تبقى من الدولة التي تشكّل وحدها الضمانة لجميع مواطنيها، سيّما المسيحيين منهم، وبوقف رفع الشعارات بالشارع التي تطالب باستنساخ النظام الذي يعتمده حزب الله بالمناطق الأخرى، وبالتصدي للمطالبة بقيام أمن ذاتي فيها. مع العلم أنّ حجة الصعوبة في حصول انتخاب رئيس للجمهورية في الظرف الحالي تقابله استحالة تامة بالبحث في إعادة النظر بالنظام السياسي قبل بسط الدولة سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية.

و الحوار الحاصل حالياً عن الفيديرالية لا يمت إلى هذا النظام السياسي المقترح اعتماده بصلة، إذ تسوّقه بعض قيادات الأحزاب التي تدافع أحياناً عن أهمية اعتماده (حسب الظرف التي تمرّ فيه) عند مناصريها على أنّه تمهيد للتقسيم للحفاظ على الوجود. ثم تعود و تنكر ما ينسب إليها من كلام في المجالس الخاصة (والعلنية أحياناً) بإظهارها أمام المتخوفين من هكذا طروحات المعنى الحقيقي والعلمي للنظام الفيديرالي الاتحادي البعيد كل البعد عن التقسيم. أمّا الفخ الذي يقع فيه المناهضون لتلك الطروحات، فيظهر بمبالغتهم في تخوّفهم من فتح هذا الموضوع و بردّات فعل عنيفة يعزّزون من خلالها الانقسام العامودي الحاصل في الشارع إلى حد استفزاز المعتدلين الذين لا يؤيدون أي طرح طائفي في الأساس. فمعالجة هذا الموضوع تأتي أولاً بالانفتاح عليه وسحبه من المزايدات الشعبوية و ذلك بتشجيع الحوارات الدستورية بين الاختصاصيين. وقد أنشأ البعض منهم أحزاباً "متخصصة" للبحث في هذه القضية و المشاكل و الهواجس التي يعاني منها اللبنانيّون جراء اعتماد النظام السياسي الحالي للبنان. فالحل لا يأتي بشيطنة أي من الحلول المطروحة، كما يحصل، مما يعزّز استمرارية دوامة التخويف والدفاع المزعوم عن المسيحيين أمام أعداء افتراضيين.

و هنا لا بد من طرح السؤال إلى الصادقين بمطالبتهم باعتماد الفيديرالية كنظام سياسي ليضع حداً لمشاكل لبنان ولإدارة مجتمعه التعدّدي والمتنوّع حسب رأيهم. فإذا كانت الدولة اتّحادية والسياسة الدفاعية و الخارجية والنقدية تبقى في يد الدولة الواحدة، فبماذا يتميّز النظام الفيديرالي عن اللّا- مركزية الإدارية؟ سيّما أنّ اتفاق الطائف خصّص بنداً لهذا الطرح. فالسير بهذا الحل الدستوري يؤمّن تطوير الدولة ومؤسّساتها وتسهيل شؤون المواطنين بموجب قانون، لكن طرح المشكلة من باب طائفي وحضاري يثير مخاوف الكثير من المواطنين الذين قد يؤيدون فكرة اللّا-مركزية، ولكنهم يرون في طرح الفيديرالية محاولة مقنّعة للتقسيم والانفصال على أساس طائفي.

فيمكن البحث في توسيع اللّا- مركزية الإدارية باقتراح انتخاب مجالس تمثيلية في المحافظات والأقضية، أسوة بنظام المناطق والمقاطعات في فرنسا، (région et départements) تتمتع بصلاحيات تنفيذية يحدّدها ويوزّعها القانون من ضمن إطارها الجغرافي، ما يسمح بتحقيق الإنماء الحقيقي في المناطق وبتطبيق معايير الشفافية في إدارة الشأن العام. كما يمكن أن يترافق ذلك مع تطوير تنظيم القضاء الإداري المحصور حالياً بمجلس شورى الدولة، وذلك عبر وضع قانون إنشاء محاكم إدارية في المناطق والذي أُقرّ في العام 2000، موضع التطبيق بهدف النظر في النزاعات والمراجعات، ولا سيّما تلك التي ستنشأ بين السلطات المحلية والمواطنين. ويمثّل حينئذ المحافظ والقائمقام اللذان تعيّنهما الدولة للسهر على النظام العام والمحافظة على الأمن ضمن صلاحيات محدّدة في القانون.

وقد شكلت لجنة لإعداد مشروع قانون لتطبيق اللّا- مركزية الإدارية بقرار من رئيس مجلس الوزراء سنة 2012، لتعمل على تحضير مسودة مشروع قانون يتضمن آليات الاستقلالية المالية للوحدات الجغرافية المنتخبة والتي يمكن مناقشتها و تطويرها إن دعت الحاجة.

إذاً، المطلوب هو البحث عن تطوير للنظام السياسي اللبناني كي يخدم مصالح المواطنين، ويسهّل حياتهم ويعزّز المحاسبة لكي يخرجوا من الأزمات التي عانوا منها على مرّ السنين. فأي طرح من هذا النوع يجب أن يأتي في هذا السياق، وليس بالشعارات المستعملة من قبل قيادات أحزاب لا تعتمد مبادئ الشفافية والمحاسبة والديمقراطية في تنظيمها الداخلي،  فيتحول عندئذٍ إلى مطلب جامع يوحّد اللبنانيين حوله، بدل العمل على إثارة الهواجس والهواجس المضادة لتعطيل أي بحثٍ جدي في الموضوع و ذلك لأهداف شعبوية تستثمر في سوق عكاظ السياسي.

*مستشار سياسي