لم يحظَ الكلام الخطير الذي صدر عن رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان بالاهتمام الكافي الذي يستحق، فقد غطّت عليه تفاهات أدبياتنا السياسيّة مثل تلك المتعلقة باعتماد التوقيت الصيفي أو تعليق موعد تطبيقه والانحدار الرهيب الذي اتخذه العراك الطائفي والمذهبي البشع في هذا الموضوع.
وفي مؤتمر صحافي في ختام زيارته لبيروت، قال رئيس بعثة الصندوق أرنستو راميريز ريغو حرفيّاً: «نعتقد أنّ لبنان في لحظة خطيرة للغاية، عند مفترق طرق»، مؤكداً أنّ «التقاعس عن اتخاذ إجراءات مطلوبة من شأنه أن يدخل البلاد في أزمة لا نهاية لها».
لم تكن وصفات صندوق النقد الدولي يوماً هي الخيار المثالي لإخراج الدول من أزماتها الماليّة والنقديّة، لا بل بعضها ساهم في تعميق تلك الأزمات وأضاف تعقيدات أخرى إليها. ولكن الوصفات التي يُحذرون من اعتمادها باتت مطبقة في لبنان بحكم الأمر الواقع أو بحكم الانهيار الكبير الذي وقع منذ أكثر من ثلاثة أعوام من دون أن تحرّك الجهات الرسميّة المعنيّة ساكناً.
لا بل تفاقمت هذه الأزمة من خلال تفويت المهل الدستوريّة لانتخاب رئيس جديد الذي كان سيشكل حصوله فرصة ثمينة لوقف الانهيار والانطلاق نحو حقبة جديدة من النهوض الممكن في حال توفرت الإرادة السياسيّة.
لقد مرّت سنة كاملة على توقيع الاتفاق الأولي بين لبنان والصندوق على مستوى الموظفين وهو كان بمثابة اتفاق «بالأحرف الأولى» على أن يليه تنفيذ إصلاحات مثل إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعديل قانون السريّة المصرفيّة وقانون «كابيتال كونترول» وتوحيد سعر الصرف وإطلاق الإصلاحات في قطاع الكهرباء وفي طليعتها تعيين الهيئة الناظمة للقطاع بما يوحي ببعض الخطوات الإصلاحيّة الجديّة.
عوض ذلك، أهدرت الحكومة ووزارة الطاقة مجدداً مئات ملايين الدولارات في سبيل توفير التيار الكهربائي لأربع ساعات يوميّاً من خلال تمويل شراء المحروقات بينما لم تتخذ أية خطوات عمليّة لضبط الهدر الفني وغير الفني في كهرباء لبنان أو نزع التعديات على الشبكة إلا عبر بعض الخطوات الفولكلوريّة الإعلاميّة غير الكافية.
قلّما اكترثت القوى الأساسيّة القابضة على زمام القرار السياسي لحجم التدهور الذي تعيشه البلاد خصوصاً الفئات المسحوقة التي أقفلت في وجهها كل منافذ الحلول ومن بينها موظفو القطاع العام والإدارات والمؤسسات العامة في مختلف الأسلاك. ومن الطبيعي أنّ الأزمة المعيشيّة الخانقة تنسحب بدورها على المتقاعدين الذين كانوا ينتظرون قانون ضمان الشيخوخة، فإذا بمدخراتهم المحدودة ومعاشاتهم التقاعديّة تصبح في مهب الريح ولا من يسأل عن شقائهم وبؤسهم.
بدل أن تدخل البلاد في عراك سياسي وطائفي مقيت حول التوقيت الصيفي، كان حريّاً أن تذهب الأطراف التي لا تزال تعرقل انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة إلى المجلس النيابي وتتيح عمليّة اقتراع ديمقراطي لا أن تصبح اللعبة أسيرة التهديدات المتبادلة بالتعطيل!
ماذا تعني هذه المراوحة السياسيّة القاتلة التي إذا ما استطالت ستضعف بشكل كبير فرص الإنقاذ وتجعل الخروج من النفق مسألة في غاية الصعوبة بما يؤثر على الأجيال المستقبليّة المقبلة.
لقد أصبح لبنان يسير عكس مسار التاريخ وهو يعاني من كل هذه العثرات التي هي صنيعة الأداء السياسي السيئ والانقسامات العميقة التي أودت بكل المكتسبات السياسيّة والاقتصاديّة (على علاتها) التي تحققت في لبنان خلال العقود القليلة الماضية.
على الجهات المعطلة أن تتحمّل مسؤوليتها الوطنيّة وتترفّع عن ممارسة السياسة من خلال الصغائر التي أسقطت البلاد في ما هي عليه من كبوات!