Advertise here

"ليلة الغدر": السودان على مفترق خطير

06 حزيران 2019 12:43:08

خرج السودانيون في تظاهرات ضخمة ضمّت الآلاف بعد صلاة عيد الفطر في الخرطوم، وفي مدنٍ أخرى مندّدين بقرارات المجلس العسكري، ورافعين شعارات تطالب بإسقاطه، وذلك بعد يومٍ على المجزرة الدامية التي شهدتها ساحة الاعتصام السلمي أمام مقر القيادة العامة للأركان في الخرطوم، والتي سقط بنتيجتها ما يزيد عن 60 قتيلاً ومئات الجرحى. وأعلن قادة الحراك السوداني رفضهم قرارات المجلس العسكري الانتقالي، والتي ألغى بموجبها الاتفاق الذي أبرمه مع المعارضة حول المرحلة الانتقالية، كما أعلنوا رفضهم للانتخابات التي قرّر المجلس إجراءها في غضون تسعة أشهر. وحمّلت قيادة الحراك المجلس العسكري مسؤولية قتل المعتصمين أمام مقر قيادة الجيش، واعتبرت ما جرى بمثابة "جريمة مكتملة الأركان"، وتعهدّت مقاومة المجلس العسكري، وإسقاطه بالوسائل السلمية، وفي مقدمتها الإضراب السياسي الشامل والعصيان المدني، وذلك في وقتٍ تواصلت فيه عمليات العنف ضد المعارضين في أنحاء البلاد.
 
وأكّد الناطق باسم المعارضة مدني عباس مدني، على قرار المعارضة وقف التفاوض مع المجلس العسكري، واعتبر بأنّ، "فضّ الاعتصام بالقوة، وقتل المدنيين العزل، جريمة مكتملة الأركان نفذها المجلس العسكري"، مطالباً بتشكيل لجنة تحقيق دولية. وبحسب مدني، فإن عدداً من جثث القتلى، والجرحى لا زالت محتجزة في ميدان الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش الذي تطوّقه السلطات. 

وأعلن مدني أن تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" ترفض بيان المجلس العسكري الانتقالي "جملة وتفصيلاً" وتعتبره "بيان انقلاب"، وأن "السودانيين يخوضون معركة مصيرية لحماية ثورتهم، وأنهم سيقاومون سلمياً الانقلاب، بالعصيان المدني والإضراب، وموقفنا هو إسقاط الانقلاب وإلحاق أصحابه بمن سبقهم من شموليين".

وأكّد مدني استعداد المعارضة للتعاون مع كافة القوى الرافضة لما يحدث في البلاد، وأن، "قوى الحرية والتغيير، تمد يدها للعمل مع القوى الراغبة في إسقاط المجلس العسكري للعمل المشترك فيما يوحّد السودانيين".

وكان رئيس المجلس العسكري، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قد أعلن بأن المجلس قرر وقف التفاوض مع تحالف قوى "الحرية والتغيير"، وإلغاء ما تمّ الاتفاق عليه معه سابقاً، كما دعا إلى إجراء انتخابات عامة في فترة لا تتجاوز مدتها التسعة أشهر ابتداءً من يوم الإعلان نفسه (الثلاثاء 4 حزيران2019). تقوم قرارات المجلس العسكري، التي جاءت بعد أحداث المجزرة البشعة التي تعرّض لها المعتصمون، على إلغاء الاتفاق الرامي إلى انتقال السلطة الى المدنيين، وترتيب المرحلة الانتقالية بما في ذلك تشكيل حكومة خبراء، والتي تمّ الاتفاق عليها مع المحتجّين بعد صولات وجولات من المفاوضات، والشروع في إجراء الانتخابات في غضون تسعة أشهر، وبحيث تكون خاضعةً لإشراف إقليمي ودولي، وتشكيل حكومةٍ مؤقتةٍ على الفور تتولى إدارة البلاد إلى حين إجراء الانتخابات.

رئيس المجلس العسكري، الذي عاد ومدّ يد، "التفاوض مع كافة القوى"، أبدى أسفه للعنف الذي صاحب "عملية تطهير شارع النيل"، واتّهم قوى المعارضة التي تُحاور المجلس العسكري بالمماطلة في الحوار، وبأنها تُحاول، "استنساخ نظام شمولي آخر يُفرض فيه رأي واحد يفتقر للتوافق والتفويض الشعبي، والرضا العام، ويضع وحدة السودان وأمنه في خطرٍ حقيقي". ورأى بأن، "التغيير الذي يمرّ به السودان يأتي في ظل ظروفٍ صعبة"، وأنه "لا مناص إلا بالاحتكام لإرادة الشعب، ورفض الأجندات الخارجية"، مؤكّدا على محاسبة من تثبت مسؤوليته عن أحداث فض الاعتصام"، كما دعا إلى "طي الصفحة الماضية، وفتح صفحةٍ جديدة للعبور نحو المستقبل".
 
من جهة أخرى، وفي مؤشرٍ سياسي لافت، فشل مجلس الأمن الدولي  في إدانة قتل المدنيّين في السودان، حيث لم يتفق ممثلو القوى الدوليّة على إصدار نداءٍ ملحّ يدعو لوقفٍ فوري للعنف، وذلك بسبب اعتراض الصين وروسيا، وذلك بحسب ما أعلنه دبلوماسيّون غربيون. وكانت بريطانيا وألمانيا قد وزّعتا خلال اجتماعٍ مُغلق لمجلس الأمن اقتراح بيانٍ صحفي يدعو الحكّام العسكريّين، والمتظاهرين في السودان، إلى "مواصلة العمل معاً نحو حلٍ توافقي للأزمة الحالية". غير أنّ الصّين اعترضت بشدّة على النصّ المقترح. واعتبر نائب السفير الروسي، ديمتري بوليانسكي بأنّ النصّ "غير متوازن"، مشدّداً على ضرورة، "توخّي الحذر الشديد" حيال الوضع.

إلّا أنه، وبعد فشل مجلس الأمن في إصدار إدانة، دانت ثماني دول أوروبية في بيانٍ مشترك، "الهجمات العنيفة من جانب أجهزة الأمن السودانية ضدّ المدنيّين". واعتبرت كُلٌ من بلجيكا، وبريطانيا وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبولندا، وهولندا، والسويد، بأنّ "الإعلان الأحادي" الصادر عن المجلس العسكري، والذي يقضي "بوَقف المفاوضات، وتشكيل حكومة، والدعوة إلى إجراء انتخابات في غضون فترة زمنيّة قصيرة جدًا، هو أمرٌ يُثير قلقاً كبيرًا". ودعت، "إلى نقل السلطة إلى حكومة متفقٍ عليها يقودها مدنيون، وذلك تحقيقاً لرغبة الشعب السوداني". كما ندّدت الولايات المتحدة، وبريطانيا، والنرويج بتوجّه المجلس العسكري لتنظيم انتخابات، ودعت بدلاً من ذلك إلى، "انتقال منظّم"، للسلطة نحو حكم مدني، حسب تعبيرها.
التصعيد الداخلي والانقسام الدولي حول الأزمة السودانية، وفي ظل تراجعٍ إفريقي عن الضغط على المجلس العسكري بضرورة تسليم السلطة الى المدنيين خلال فترة شهرين، وفي ظل تدخل بعض الدول العربية الى جانب المجلس العسكري وتوفير الدعم له، يتواصل العصيان المدني والإضراب السياسي الشامل في كل أنحاء السودان، ويتواصل قيام عددٍ من المحتجّين بنصب المتاريس في بعض المناطق من البلاد، وقطع الطرقات في غالبية أحياء الخرطوم والولايات التي تشهد منذ أيام معارك كرٍ وفر بين المتظاهرين والقوات الحكومية. وهكذا قطعت السلطات العسكرية خدمة الإنترنت عن البلاد، ما جعل مواقع التواصل الاجتماعي للسودانيين خارج البلاد تتحوّل إلى المصدر الوحيد للمعلومات الواردة من هناك، في حين أعلن المزيد من المؤسّسات والمصالح والشركات الدخول في الإضراب السياسي.

أمام كل ذلك، ووسط دوامة العنف التي بدأت تعصف بالسودان، ترتسم صورة قاتمة لأزمة خطيرة أظهرت بشاعتها صور المجزرة التي ارتكبتها القوى الأمنية، وأجهزة المخابرات، والميليشيات الداعمة لها، والتي تناقلتها كبريات الصحف العالمية. فعلى الرغم من أن ما حصل، "لم يكن مفاجئاً، إلا أنه ما زال مرعباً". أما الافتراض بأن، "الثورة السودانية، التي حققت توازناً إيجابياً بين قوة الشعب مقابل قوة السلطة في ظل حياد الجيش، وتمكّنت من الإطاحة ليس فقط بعمر البشير، إلّا أن ذلك لا يعني بأنها قادرة، ببساطة، على الإطاحة بشبكة المصالح العسكرية والأمنية الراسخة بعمق في العقل السياسي للسلطة السودانية ومن وراءها".

إن نجاح الاحتجاجات حتى الآن بفضل جهود المحتجين وصلابة قيادتهم، قد قّدم بصيصاً من الأمل، لأنه في الوقت الذي كان فيه المدنيون يتفاوضون فيه مع الحكومة العسكرية الانتقالية لإنهاء الحكم العسكري، كان نفوذهم في الشوارع قوياً.

إلاّ أن منظومة المصالح العسكرية المتشابكة في المجلس العسكري، والهيئات الأمنية المرتبطة به، والتي تتحمّل مسؤولية ارتكاب المجزرة البشعة، قد بعثت برسالة عنف خطيرة تؤشّر الى أن الأجهزة العسكرية السودانية المختلفة لا تلتزم جميعها بتوجّهات المجلس العسكري الانتقالي. ولا يتمكّن المجلس من الإمساك بمفاصل تلك المؤسّسات الأمنية والعسكرية. وبالتالي لا يمكن اعتبار المجلس العسكري قوةً متماسكة مقابل قوة الانتظام الشعبي، وهو الأمر الذي قد يُفقد التوازن القائم بين الحراك الشعبي السلمي مقابل قوة الجيش الوطني المنضبط،، وقدرته على تحقيق انتقالٍ سلمي للسلطة، وهو الأمر الذي قد يذهب بالبلاد الى أحداث عنف دموية كتلك التي وقعت أمام مركز قيادة الأركان، حيث قامت قوات الدعم السريع - وهي مجموعة شبه عسكرية تشكلت من بقايا ميليشيا الجانجويد في المناطق الرئيسية التي كانت فيها اعتصامات - بفتح النار على المعتصمين، وإحراق خيَمهم، ومحاصرة الطرق والمستشفيات كي لا يتمكن الدعم الطبي من الوصول إلى الجرحى.

نقلت بعض وسائل الاعلام الأجنبية عن ضابط منشقٍ من جهاز الأمن الوطني، والذي شاهدَ أحداث المجزرة، بأن قوات الدعم السريع، وجهاز الأمن والمخابرات الوطنية، وميليشيا الشرطة الشعبية، وميليشيا الأمن الشعبي، وميليشيا الدفاع، وميليشيا الأمن الطلابي، و"مليشيا الشيخ عبد الحي الإسلامية"، قد شاركت جميعها في المجزرة.

وقال ذلك الضابط المنشق، "إن حجم القوات المشاركة في الهجوم كان عشرة آلاف عنصر، وأن عدد القتلى المعلن (حوالي ستين شهيد) لم يصل إلى ربع العدد الحقيقي". ونسبت إلى المصدر قوله، "إن بعض الضحايا تعرض للضرب حتى الموت، وتعرّض آخرون لإطلاق الرصاص عليهم مرات عدة، فيما قُطّع آخرون بالسواطير، ثم ألقي بالجميع في النيل".
أوضح الضابط كذلك بأنه تمّ سحب قوات الجيش من موقع الاعتصام بأوامر من المجلس العسكري الانتقالي، وذلك قبل ساعاتٍ من تنفيذ المجزرة، كما تمّ إحلال مركبات قوات الدعم السريع بدلاً من مركبات الجيش التي تحرس المداخل. وقالت إن أشخاصاً تم اعتقالهم ونقلهم من موقع الاعتصام في سيارات الإسعاف، وأن بعض الخيام أُحرقت بمن كان بداخلها، وهُرّبت جثثهم بسيارات الإسعاف إلى جسر النيل الأزرق لرميها في النهر.