"الأضرار التي خلّفها الزلزال في شمال غرب سوريا الذي تسيطر عليه قوات المعارضة باتت ترجّح كفّة الصراع لصالح نظام الأسد الذي لطالما استخدم المساعدات في سوريا كسلاح حرب لحصار مناطق المعارضة وإجبارها على الخضوع عبر استراتيجية "الركوع أو الجوع".
تحذير من استغلال الأسد لكارثة الزلزال المدمّر الذي وقع في سوريا وتركيا في شهر شباط الماضي أطلقه عبر مجلّة "فورين أفيرز" كلّ من رئيس منظمة اللاجئين الدولية ومحامي المنظمة لمنطقة الشرق الأوسط اللذين قالا إنّ نظام الأسد حوّل هذه الكارثة إلى سلاح بيده لتحقيق مكاسب إضافية داخلياً وتطبيع علاقاته دولياً، وناشدا الأمم المتحدة والجهات الدولية المانحة السعي إلى فتح معابر إنسانية لمناطق المعارضة والتأكّد من عدم التواطؤ مع محاولات نظام الأسد استخدام جهود التعافي لصالحه، واعتبرا أنّ العالم يستطيع مساعدة ضحايا كارثة الزلزال من دون دعم هذا النظام.
كتب الباحثان رئيس منظمة اللاجئين الدوليين جيريمي كونينديك والمحامي البارز للشرق الأوسط في المؤسسة جيسي ماركس مقالاً مطوّلاً في "فورين أفيرز" بعنوان "كيف يستخدم الأسد كارثة الزلزال كسلاح":
لطالما سعى نظام الأسد إلى معاقبة السكان المدنيين كوسيلة لتعزيز جهوده الحربية، وهي استراتيجية يسهّلها الزلزال الذي ضرب سوريا في شباط الماضي. فالأضرار الهائلة التي لحقت بشمال غرب سوريا الذي تسيطر عليه المعارضة نتيجة الزلزال لا يمكن أن تمنع الناس من إعادة بناء حياتهم فحسب، بل يمكن أن تقلب أيضاً ميزان الصراع لصالح الأسد. ويجب على المانحين الدوليين المشاركين في جهود إعادة التعافي السورية ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المنطقة وتوضيح أنّهم لن يكونوا متواطئين مع محاولات الأسد التلاعب بالجهود الإنسانية لمصلحته الخاصة.
استراتيجية "الركوع أو الجوع"
لطالما استخدم الأسد تدفّق المساعدات الإنسانية في سوريا كسلاح حرب، مستخدماً تكتيكات الحصار لإجبار المعارضة على الخضوع... فنجح في إضعاف المقاومة المدنية في البلاد من خلال نشر استراتيجية طويلة الأجل تُعرف باسم "الركوع أو الجوع".. قاد هذه الاستراتيجية في المراحل الأولى من الحرب الأهلية في البلاد، إذ قام بتطويق البلدات والأحياء التي تسيطر عليها المعارضة وقصفها من بعيد مع منع الإمدادات الغذائية والأدوية وغيرها من المساعدات حتى استسلامها. فأسفرت تكتيكات الحصار القاسية هذه عن سحق السكان المدنيين بتكلفة منخفضة على المجهود الحربي للنظام، وسقط العديد من هذه المناطق في نهاية المطاف في أيدي قوات الأسد.
في السنوات الأخيرة، مع توطيد المعارضة السورية في شمال غرب البلاد، طبّق الأسد هذه الاستراتيجية الوحشية على نطاق أوسع، وحاصر المنطقة عسكرياً ودبلوماسياً. قبل الزلازل، اعتمدت وكالات الأمم المتحدة على تفويض مجلس الأمن لإيصال المساعدات عبر تلك الحدود في نقطة عبور واحدة معتمدة. استخدم الأسد وروسيا، الحليف الرئيسي للنظام السوري، بانتظام تجديد تفويض مجلس الأمن كوسيلة للضغط لمعاقبة المعارضة السورية ودفع أجندة الأسد التي تتوخّى تطبيع نظامه على المستوى الدولي.. لا يسيطر الأسد بشكل مباشر على المعابر الحدودية بين تركيا وشمال غرب سوريا، وهي طرق مهمّة للمساعدات الإنسانية، لكن نظراً لاستعداد روسيا للانخراط في عرقلة دبلوماسية نيابة عنه، ما يزال بإمكانه التلاعب بجهود المساعدة. احتجزت روسيا والأسد تدفّق المساعدات الدولية في المنطقة متسبّبين بعواقب وخيمة على ملايين الأشخاص الذين ما زالوا يعيشون هناك.
نعمة لنظام الأسد وروسيا
حتى الآن، أفادت الجهود المبذولة لمساعدة ضحايا الزلزال الأسد إلى حدّ كبير، ومن ورائه روسيا. كمّيات ضئيلة فقط من المساعدات وصلت إلى شمال غرب سوريا، بل تأخّرت بسبب حجم الدمار ومناورات الأسد. المعبر الحدودي الوحيد الذي تركه متاحاً للأمم المتحدة بسبب عرقلة روسيا الطويلة في مجلس الأمن تضرّر بشدّة جرّاء الزلزال، وهو ما أعاق إيصال المساعدات إلى البلد خلال مرحلة البحث والإنقاذ الأوّلية الحرجة. فقد أصرّ النظام على أنّ أيّ مساعدة لمناطق المعارضة يجب أن تمرّ عبر دمشق. ولكن في مواجهة الضغط العالمي المتزايد، وربّما الشعور بفرصة لإعادة تأهيل موقفه الدولي، سمح الأسد بالاستخدام المؤقّت لنقطتَي عبور إضافيّتين لم يأذن باستخدامهما إلا بعد انتهاء مرحلة الإنقاذ الفوري. ولم يعرض النظام ولا المتمرّدون وقف الأعمال العدائية في المنطقة للسماح بجهود إنقاذ واسعة وبأمان. وبالنتيجة فُقِدَ عدد لا يحصى من الأرواح السورية التي كان من الممكن إنقاذها في الفترة التي أعقبت مباشرة الزلزال. لم يصل أيّ دعم إلى شمال غرب سوريا على الإطلاق. عملت فرق الخوذ البيض والمتطوّعون السوريون المحليون الآخرون ببسالة لإنقاذ من يستطيعون، لكنّهم كانوا يفتقرون إلى الموارد والمعدّات المنتشرة عبر الحدود.
في ضربة واحدة، ألحق الزلزال بشمال غرب سوريا أضراراً أكبر بكثير ممّا كان يمكن أن يحقّقه النظام وروسيا من خلال التكتيكات العسكرية التقليدية، ومن دون توريط النظام في نمط جديد من جرائم الحرب. فاقمت الكارثة أزمة إنسانية طويلة الأمد في المنطقة بحيث بات الوضع الراهن الجديد بعد الزلزال يخدم مصالح النظام، وسيؤدّي حظر الأسد للمساعدات التي تهدف إلى إصلاح الضرر إلى نفس نتيجة تفجيره للمستشفيات أو استهداف البنية التحتية المدنية. عدم الوصول الكامل والمفتوح إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المتضرّرة يعزّز بشدّة المجهود الحربي للنظام. لقد كان مجلس الأمن الدولي بطيئاً في التحرّك، وبدأت الأزمة تختفي من عناوين الأخبار العالمية. تنازل الأسد على مضض فسمح بسلوك طريقين إضافيَّين للمساعدة من تركيا لم يتم إضفاء الطابع الرسمي عليهما في قرار جديد لمجلس الأمن الدولي، ويبدو أنّ ذلك أضعف الزخم لاتّخاذ إجراءات عاجلة من الأمم المتحدة.
يشكّل السياق السياسي العامّ تحدّياً كبيراً. بعد اثني عشر عاماً على الحرب، تخلّت الولايات المتحدة والدول المانحة الرئيسية الأخرى إلى حدّ كبير عن السعي إلى تحقيق تسوية عن طريق الوساطة أو انتقال السلطة الذي يتطلّب الإطاحة بالأسد، إلّا أنّها لم ترغب أيضاً في التنازل عن نصر نهائي للأسد. ما تزال تركيا ووكلاؤها السوريون يحتلّون مساحات شاسعة من شمال سوريا، وتقوم الولايات المتحدة بعمليات في الشمال الشرقي، ويحتفظ المانحون بكمّيات متواضعة من المساعدات تتدفّق إلى المنظّمات غير الحكومية في الجيوب الباقية التي تسيطر عليها المعارضة. والنتيجة العملية هي صراع شبه مجمّد لا يواجه فيه الأسد احتمالية فقدان السلطة، ما دام يحتفظ بالدعم الصيني والإيراني والروسي، لكنّه يفتقر أيضاً إلى الوسائل لاستعادة مناطق البلاد التي ما تزال خارج سيطرته. وسيكون المزيد من توطيد سلطة الأسد أسوأ لسكّان شمال غرب سوريا.
خلفيّة معقّدة
مخاطر مرحلة التعافي المقبلة هائلة لسكان شمال غرب سوريا كما للمسار المديد للصراع. لكنّ جهود إعادة الإعمار تواجه عقبات ضخمة. لا تهتمّ الحكومة السورية بإعادة بناء شمال غرب البلاد، إلّا في إطار مقايضة قصيرة الأجل للحصول على مساعدات دولية لإعادة إعمار المناطق ذات القيمة التي دمّرها النظام خلال الحرب، مثل مدينة حلب. كانت مثل هذه المقايضات على الأرجح جزءاً من حسابات الأسد في فتح طرق المساعدات الإضافية عبر الحدود، إذ تزامنت مع تخفيف مؤقّت للعقوبات للسماح بتقديم المساعدات لضحايا الزلزال وإعادة الإعمار في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
تساعد هذه المقايضة الضمنية الأسد بالفعل. فقد تدفّقت المساعدات من الإمارات العربية المتحدة إلى النظام لدعم الاستجابة الإنسانية في المناطق التي يحكمها. كما يواجه المانحون الرئيسيون للمساعدات معضلة في الشمال الغربي، حيث لا يرغب الكثير منهم في تمكين أو إضفاء الشرعية على سلطات الأمر الواقع في المنطقة، وخاصة الجماعات المصنّفة إرهابية مثل هيئة تحرير الشام المرتبطة بتنظيم القاعدة. وعلى الرغم من توصّل هذه المجموعات إلى تسوية مؤقّتة مع المجتمع المدني السوري من خلال السماح باستمرار تدفّق المساعدات بأقلّ قدر من الاضطرابات، إلا أنّ المانحين سيحرصون على التأكد من أنّ هذه الجهات الفاعلة لا تستفيد مادّياً من المساعدات الإضافية. إنّ تحدّي إعادة الإعمار هو صورة مصغّرة للمعضلات الأوسع نطاقاً للانخراط الدولي في الثورة السورية على مدار العقد الماضي: لا توجد قوّة كبرى تريد مساعدة العناصر المتطرّفة في المعارضة على الفوز، لكنّ الغرب لا يريد أيضاً منح الأسد نصراً واضحاً.
فنّ الممكن
في ظلّ هذه الخلفيّة المعقّدة، قد يكون أفضل سيناريو لإعادة الإعمار هو ببساطة مساعدة مجموعات المجتمع المدني السوري على قيادة الجهود ونشر المعرفة والمهارات التي تمّ تطويرها على مدى أكثر من عقد من الزمن، وأن تتحرّك الأمم المتحدة للمساعدة عبر الحدود لتكثيف دعم الإغاثة والمساعدة في إعادة الإعمار المقدّمة إلى هذه الجماعات، والاستفادة الكاملة من نقاط العبور الحدودية الإضافية التي تمّ فتحها. على مدى عقد من الصراع، اعتمد جزء كبير من تقديم المساعدة للمنطقة على قدرات منظّمات المجتمع المدني السورية، بموافقة ضمنية من الجماعات المسلّحة التي تسيطر على المنطقة. وبدعم من الأمم المتحدة والمنظّمات غير الحكومية الدولية، أنشأت هذه المنظّمات السورية المحلّية ومجموعات من الشتات مستشفيات، وأقامت مخيّمات للنازحين، وحافظت على البنية التحتية، وقدّمت العديد من الخدمات الأساسية الأخرى. صحيح أنّه تمّ تدمير الكثير من هذه البنية التحتية والقدرة الآن، لكنّ الخبرة العملية بعد 12 عاماً من الحرب ما تزال قائمة. ويمكن أن تساعد عدّة تدابير في إطلاق عملية إعادة إعمار قابلة للحياة، وإن كانت غير كاملة، بقيادة سورية:
-أوّلاً، يجب أن يسرع مجلس الأمن الدولي في إصدار قرار يفرض وصول المساعدات الإنسانية إلى شمال غرب سوريا عبر جميع القنوات التي يمكن الوصول إليها، وأن يضفي الطابع الرسمي على المعابر الإضافية التي قدّمها نظام الأسد، والضغط من أجل المزيد، بما في ذلك وقف إطلاق النار المؤقّت في شمال غرب سوريا لتمكين التعافي على نطاق واسع. وينبغي للقرار أن يؤكّد مجدّداً أنّه لا يمكن لأيّ جهة فاعلة، ولا سيّما النظام السوري، التدخّل في جهود الإغاثة والإنعاش، وأن يؤكّد الأهمية الحاسمة لوصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق. كما ينبغي أن يكون القرار مستداماً، أي صالحاً لمدّة سنة واحدة على الأقلّ. وإذا رفضت روسيا التعاون في تمريره، يجب على الأمم المتحدة أن تستغلّ الفرصة الملحّة الحالية لإعادة النظر في النظام القانوني المتعلّق بالمساعدات عبر الحدود. يعتقد بعض الخبراء القانونيين أنّ قرار مجلس الأمن ليس ضرورياً جدّاً للسماح بإيصال المساعدات عبر الحدود في شمال غرب سوريا. لكنّ سلوك نظام الأسد بعد الزلزال يعزّز الحجّة القائلة بأنّ المساعدات الإنسانية عبر الحدود يجب أن تكون قانونية حتى في حالة عدم وجود حلّ.
- ثانياً، على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمانحين الخليجيّين وغيرهم الالتزام ببرنامج إنعاش كبير لشمال غرب سوريا. وبعد مؤتمر المانحين في بروكسل في 20 آذار، تعهّد المجتمع الدولي بتقديم ما مجموعه 7.5 مليارات دولار لتركيا وسوريا، منها مليار دولار مخصّصة لسوريا. سيُظهر هذا التعهّد التزاماً سياسياً ومالياً، وتضامناً مع المدنيين في سوريا من خلال الالتزام بتمويل استجابة إنسانية كبيرة وجهود التعافي السريع. لكنّ الاختبار الرئيسي هو مقدار المساعدات المخصّصة لسوريا التي ستذهب إلى الشمال الغربي ومقدار المساعدات التي ستمرّ عبر نظام الأسد. ويمكن للمانحين التنقّل في هذه المياه المضطربة من خلال وضع بنود تتضمّن شروطاً لالتزاماتهم بالمساعدة، إذ تمنح المساعدات الدولية الجهات المانحة درجة من النفوذ، ويجب أن تكون كلّ أشكال المساعدة المالية التي تموّل إعادة الإعمار في المناطق التي يسيطر عليها النظام مرتبطة بشروط صارمة في ما يتعلّق بسلوك الأسد تشمل الإفراج عن السجناء السياسيين وموافقة النظام على عمليات المساعدة عبر الحدود، وتوسيع نطاق وصول العاملين في المجال الإنساني، وضمان حرّية تنقّلهم. كما يجب أن يضمن المانحون أيضاً أن لا يتمّ توزيع أيّ مساعدة جديدة بطرق تؤدّي إلى تمويل مشاريع النظام الأخرى.
- ثالثًا، على المانحين والأمم المتحدة مضاعفة جهودهم لتقديم الدعم المباشر لمجموعات المساعدة السورية والاستثمار في قدراتها المؤسّسية. فهذه المجموعات تستحقّ الأفضل من الجهات المانحة للمساعدات. ولا ينبغي أن يستمرّ إهمالها واعتبارها مقاوِلةً وحسب لمجموعات الإغاثة الدولية الكبيرة التي تعمل من تركيا. هي تقود هذا العمل منذ أكثر من عقد، ويجب على الأمم المتحدة ومسؤولي الإغاثة الآخرين إدراك هذا الواقع والتكيّف معه. لقد قامت منظمات المجتمع المدني السوري ببناء المجتمعات التي يعيش فيها النازحون من سوريا، وهي مسؤولة الآن عن إعادة بنائها، وهي أفضل طريقة للحفاظ على الخدمات الأساسية والتماسك الاجتماعي في المناطق المنكوبة، ويجب أن يعاملها المانحون على هذا النحو.
يجب أن يحدث كلّ هذا الآن وبسرعة البرق. وإلّا فسيكون الأسد المستفيد الأوحد.
* جيريمي كونينديك هو رئيس منظمة اللاجئين الدولية والرئيس السابق للمساعدة في حالات الكوارث في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
* جيسي ماركس هو كبير المدافعين عن الشرق الأوسط في منظمة اللاجئين الدولية.