Advertise here

كمال جنبلاط الإصلاحي ورجل الدولة

17 آذار 2023 21:33:00 - آخر تحديث: 17 آذار 2023 21:43:30

 شكل كمال جنبلاط خلال مسيرته السياسية نموذجًا استثنائيًا في العمل السياسي ، وكان الاكثر قدرة على القيادة والتأثير في الاحدات إذ ترك بصمات بقيت العلامة الفارقة في تاريخ لبنان الحديث. ومن مفارقات زمن الجمهورية الاولى، أن كمال جنبلاط الفليسوف والشاعر والاديب والمثقف والسياسي القدير، اضحى صانع الرؤساء في نظام سياسي رسم حدودًا مجحفة له في تولي المسؤوليات، مبنية على الحساب العددي لطائفة الموحدين الدروز  التي ينتمي اليها. عرف كمال جنبلاط كيف يحطم القيد الطائفي ويخرج من العباءة التقليدية، ويبني حزباً تقدمياً اشتراكياً ينخرط في الحداثة ويجعل من "الانسان "محور العملية السياسية. وقد تمكن من خلال الانسجام بين  ممارسته السياسية وما آمن به من مبادىء ، ومن خلال ايمانه بقضايا العالم الثالث وتصميمه على النضال لتحقيق التنمية والحرية والاستقلال، من ان يحتل مكانة عالية في حركات التحرر العالمية وفي الكفاح من أجل القضية الفلسطينية والعروبة الحضارية، فتصدر قائمة الشخصيات الاممية وبات يحسب له حساب في كل الاحداث والمحطات .

 تثير ذكرى استشهاده هذا العام وفي ظل ازمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة اسئلة متعددة، ومنها اهمية العودة إلى قراءة البرنامج المرحلي للاحزاب والقوى الوطنية  في ضوء التحديات التي يواجهها لبنان على الصعد المختلفة، وذلك لتفحص مضمون هذا المشروع وصلاحيته في هذا الزمن والاهداف التي وقفت وراء ضربه، والتداعيات التي ما زال لبنان يعيشها بغياب اية افق للاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كان  يشكل العمود الفقري لمشروع كمال جنبلاط .

 كما تثير الذكرى هذا العام سؤالاً حول النموذج الذي كان يمثله كمال جنبلاط في قيادة العمل السياسي وفي إدارة الوزارات التي تولاها ، نموذج رجل الدولة الذي يقدم المصلحة العامة على غيرها من المصالح الفئوية والشخصية. ولعل إعادة قراءة هذا النموذج يساعد في فهم ازمة الثقة القائمة بين مسؤولي الدولة والمواطنين، ويطرح من جديد مدى الحاجة الى نموذج كمال جنبلاط في ادارة الدولة ومؤسساتها. 


 كمال جنبلاط الاصلاحي 

العودة الى البرنامج المرحلي للاحزاب والقوى الوطنية الذي اعلنه كمال جنبلاط في 15 آب 1975 تثير على المستوى الوجداني، الحنين الى مرحلة مليئة بالتضحيات الهائلة وبالاحلام الوطنية والعربية، مرحلة قاد فيها كمال جنبلاط نضالًا واسعاً باسم العرب والعروبة، باسم القضية الفلسطينية ، باسم حركات التحرر الوطني. قاد نضالًا من أجل تعزيز وحماية الحريات وتحرير اللبنانيين من عبودية نظام الامتيازات الطائفية، وفي تلك المحطات اسقط روساء وأتى بآخرين، وقاد ثورات، وفي اللحظة السياسية التي تطلبت حماية المصالح الوطنية العليا، لم يتأخر في عقد التسويات التي كان يرى فيها الفرصة لاعادة الاعتبار للمساحات المشتركة والسير في بناء مستقبل افضل .

 العودة الى برنامجه المرحلي تطرح على المستوى السياسي القراءة العميقة التي تضمنتها مقدمة البرنامج والمتعلقة باسباب الازمة على الاصعدة الوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسبل الخروج منها. وفي مقارنة بسيطة لتلك القراءة  التي جرت منذ اكثر من اربعة عقود مع الازمة الحالية، يبدو أننا ما زلنا ندور في الحلقة المفرغة ذاتها، حيث ما زال الانقسام الوطني حول لبنان ودوره وصيغة الحكم فيه وعلاقته بمحيطه العربي، يتغذى من ايديولوجيات ومشاريع، بعضها يستلهم الفكر الغيبي، والبعض الاخر، ينطلق من اوهام الفيدرالية كعلاج لهذا الانقسام والانسداد السياسي غير المسبوق. ونسجل في هذا المجال ايضاً، غياب الإرادة لدى معظم القوى السياسية لتطوير النظام وفقاً لما نص عليه اتفاق الطائف، لاسيما إلغاء الطائفية السياسية التي اعتبرها كمال جنبلاط صيغة متخلفة، وقد وردت في اولويات برنامجه الاصلاحي، صيغة،  تغذي برأيه العلاقات العشائرية والولاءات التقليدية وتساهم في بقاء نظام "الزبائنية "وتقاسم المغانم" الذي اثبت ان استمراره يأتي على حساب الجدارة ومبدأ تكافؤ الفرص. 

العودة الى البرنامج المرحلي ، يظهر عبء الاثمان التي دفعت من خلال الفرص التي اهدرت، ومن خلال سياسة عدم الاعتراف بالاسباب الاقتصادية والاجتماعية التي تقف وراء الكثير من ازمات هذا النظام . واذا تم اسقاط قراءة كمال جنبلاط واقتراحاته للاصلاح في ذلك الوقت على الازمة الحالية، لوجدنا صوابية قراءته ومواقفه لاسيما في التصدي للفوارق الاجتماعية والاقتصادية القائمة، والدعوة الى بناء اقتصاد منتج واصلاح نظام الضرائب المجحف ووضع حد للاحتكارات ورسم السياسات التي تحمي الطبقة الوسطى. ما اقرب الامس الى اليوم وكم من فرص ضاعت للقيام بالاصلاح وكم من اثمان دفعت ولم تستخلص الدروس بعد. 


وفي هذه الذكرى يبقى السؤال السياسي والوجداني ، لو نظر خصوم كمال جنبلاط في ذلك الوقت لمشروعه الاصلاحي بعقلانية ، وتطلعوا بواقعية لحاجة لبنان للاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولو نظروا لدعوته لقيام حوار داخلي وانتاج تسوية لبنانية تحمي استقلال لبنان وقراره الوطني المستقل، وساروا لملاقاته الى نصف الطريق، كم تجنب لبنان لاحقاً من احتلالات ووصايات ومآسي والتي لم تتوقف، منذ ان اعتقدوا ان الحل يكمن بالاستقواء بالخارج، وإن حكاية التغيير في لبنان تنتهي  بمجرد ازاحة كمال

 

جنبلاط عن المسرح السياسي. 

كم كانت آفاقهم ضيقة، وكم دفعت البلاد ثمن هذا العمى السياسي والاحقاد والمصالح الضيقة، التي يبدو انها تعود اليوم لتجدد المشهد نفسه، في رفض الحوار والتسوية التي يدعو اليها وليد جنبلاط لانتخاب رئيس للجمهورية، لا يشكل تحدياً لاحد وقادر على الدفع نحو الاصلاح الاقتصادي وغيره من الاصلاحات المطلوبة. وكم من اثمان تدفع ايضاً مع اصرار البعض الاخر على الاستمرار في القبض على لبنان واسره، وعدم التطلع بواقعية للتغييرات الهائلة التي سيحدثها الاتفاق الايراني السعودي برعاية صينية، والفرص التي يمكن ان يوفرها للاستقرار والتنمية في دول المنطقة.


معايير كمال جنبلاط لممارسة السياسة 
تثير ذكرى استشهاد كمال جنبلاط هذا العام وفي ضوء ازمة الثقة القائمة بين المواطنين والدولة، فضول البحث في النموذج الذي كان يمثله في العمل السياسي وإدارة الوزارات التي تولاها. وينطلق هذا النموذج من قناعة فكرية راسخة لدى كمال جنبلاط بأهمية "موقع الانسان في المعادلة السياسية "، لذلك رأيناه في الممارسة السياسية يخضع  "قدسية الدولة "لمعايير مختلفة عن قدسيتها في الفكر السياسي الاوروبي، إذ اخضعها لمعيار وحيد وهو "قدرة مؤسساتها على تأمين شروط تطور وتفتح الكائن البشري". وانسجاماً مع المعايير الحديثة لإدارة الدولة وضرورة تحديث الفكر السياسي اللبناني والعربي، اخضع كمال جنبلاط السياسي الذي يتولى ادارة الشأن العام، الى معايير القدرة على ادارة  الخدمة العامة بشكل حيادي لمنع التمييز بين المواطنين، وكذلك القدرة على الفصل بين الشأن العام والشأن الخاص، وعلى الاقرار بالمسؤولية عن القرارات التي تتخذ. كما اخضعه لموجب امتلاك الرؤية التي كان يرى فيها الاساس من اجل التخطيط ورسم السياسات وإتخاذ القرارات. لقد شكل كمال جنبلاط من خلال ممارسته السياسية، نموذج رجل الدولة الذي نفتقده في المرحلة الحالية في غالبية سلوك النخب التي تتولى ادارة الشأن العام ، رجل الدولة الذي تمتع بالرؤية والقدرة على مخاطبة الناس وكسب ثقتهم، لاسيما في الاوضاع الصعبة والمعقدة. نموذج رجل الدولة الذي تطمئن اليه الناس والذي آمن باهمية الكفاءة وناضل من اجل الغاء ما اسماه "نظام المغانم "واقرار النظام القائم على الجدارة، رجل الدولة الذي ناضل من اجل اقرار قانون الاثراء غير المشروع ، الامر الذي جعل كمال جنبلاط يحتل مكانة عالية ومرموقة في توليه حقائب وزارية كالتربية والاقتصاد والداخلية. لذلك اضحى نموذجاً من نماذج رجال الدولة الذين تركوا بصماتهم وسيرتهم الذاتية في مسيرة بناء الدولة في تلك المرحلة. ولعل ما كان يردده دائماً، نستحضره اليوم ليشكل البوصلة السياسية للخلاص ومفادها "بأن السياسي الحقيقي، أي رجل الدولة، يجب أن تكون له دائمًا عين على المبادئ يستلهم منها مواقفه وتصرّفاته، وعين أخرى على الواقع المحيط بتطبيقها"، "فالشخص لا يمكن ان ينفصل عن المبدأ، ولا يمكن ان ينفصل المبدأ عن الشخص". 


واخيراً، وليد جنبلاط، في ندرة البحث عن رجال الدولة والمخلصين والعقلانيين، وبالرغم من استمرار البعض بالتشكيك والتفكير المنفصل عن الواقع، لا اغالي اذا قلت أن نسبة كبيرة من اللبنانيين تطمئن اليك وتأتمنك على  مستقبلها، وترى في طروحاتك العقلانية السبيل الوحيد للخروج من الازمة، الجميع ينتظر اقدامك وما عودتنا إلا على الشعور بالامان معك والاقدام والشجاعة وحماية مستقبل الناس .