Advertise here

قامةٌ أكبر من الخيبات.. وسرّ لبنان

16 آذار 2023 12:59:01 - آخر تحديث: 02 تموز 2023 22:16:34

تحلّ الذكرى السادسة والأربعين لاستشهاد المعلّم كمال جنبلاط ولبنان يواجه أخطر أزمة في تاريخه الحديث، تهدّد ربما وجوده واستمراريّته كوطن وكدولة، وكشعب واحد مُتّحدِ قادرٍ على تقرير مصيره بنفسه بحريّة وكرامة، دون وصاية أو إكراه.

والذين غيّبوا كمال جنبلاط جسداً فاتهم أنّ المعلّم هو صاحب مدرسة فكريّة كاملة متكاملة، تعاليمها ومبادؤها وأفكارها لا تموت. فهو روحيٌ معنا وبيننا من خلال هذه الأفكار والمبادئ والقيَم والتعاليم التي لا تزال تشكّل الحلّ والمخرج والمثال والمقتدى وخارطة الطريق لما يعاني لبنان منه على مختلف الصُعُد، وأولّها الموقف الوطني المستقل، والتمسّك بالحريّات العامة والخاصة، والنضال الوطني الجامع الذي هو أساس نضال شعبنا وانتصاره عبر تاريخه الطويل الذي قدّم خلاله الشهداء، وعناوين النضال وتفاصيله.

"وما نفع الخبز من دون الحريّة"، قال وعلّم؛ المواطن الحرّ  والشعب السعيد لا يمكنه أن يتحوّل إلى مواطن مُستعبد، وإلى شعبٍ مقهور ومذلول.
فهو كان ويبقى، أي كمال جنبلاط، المعلّم الذي دلّ على الطريق القويم الواضح للعبور بلبنان من دولة الطوائف إلى دولة الوطن الموحّد، وباللبنانيين من رعايا طوائف إلى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وبناء دولة القانون والعدالة والمؤسّسات وحقوق الآلاف. ولعلّ كلمتَي الإنسان والتطوّر هما الأكثر شروداً في كل ما كتب وعلّم. الآن يبقى هدف وغاية كل نضال. أمّا التطور فقال فيه الآتي: "إنّ كلمة الساحة هي في لبنان وفي البلدان العربية، وفي كل بلد من بلدان العالم.
علينا أن نكون في مقدمة التطوّر فنصيّره ويصير منا".

وفي كل ما جرى ويجري هذه الأيام، كان له الموقف الواضح والكلمة الفصل عندما حاضر، فقال: "إنّ لبنان هو بلد التناقضات الدائمة والتسوية الدائمة".

وفي هذا كتب كمال جنبلاط يقول: "كان لبنان، ولا يزال، بالرغم من التناقضات والمفارقات والتعاكسات والتنوعات التي يتضمنها ويحتضنها، كان ولا يزال يُشكّل وحدةً للعيش واحدة، ووحدةً للحياة المُشتركة. وقد يكون في ذلك السرّ والسبب الذي يجعل التناقضات والمفارقات والتنوّعات والأزمات كافة، تجدُ في النهاية حلاً واقعياً منسجماً، وتسوية معقولة، وتأليفاً يحافظ على على طرفَي النقيض وقطبَي التعاكس في عملية تطوّر الحياة، الحقيقة التي تجمع على الدوام بين التناقضات ثم تهدمها لتبني تناقضاً آخر أكثر انسجاماً.. فوحدة العيش، ووحدة الاقتصاد، وحدة الحياة، وحدة الاختلاط والاشتراك هي على الدوام الغالبة المنتصرة. 

وأضاف المعلّم الشهيد كمال جنبلاط قائلاً إنّ الكيان اللبناني، رغم العواصف التي تمر به، يتأكّد ويتثبّت في ازدياد مضطرد، وعلى الدوام، في بصيرة جميع اللّبنانيين.. وقد يدركون يوماً أكثر مما يدركون الآن أنّهم أولاً أبناء هذه الوحدة الحياتية: وحدة الاقتصاد والاجتماع وتشارُك البيئة قبل أن يكونوا نصارى وسنّة ودروزاً وشيعة وسواها من المذاهب. وقد يبزغ يوم يترك اللّبنانيون فيه للآخرة خلافاتها واختلافاتها، ويجتمعون على ما اتفقوا عليه من شؤون هذا الوطن الذي أُنشِأ لهم وحقّقه واقع الزمان والمكان قبل أن يرتضوه لهم خيمة، أرضية يأوون إليها في هذه الحياة الفانية القصيرة.. 

هذا النص مأخوذ من كتاب "لبنان في واقعه العربي ومرتجاه".

 ولأنّنا في الذكرى المنيرة الخالدة، نستذكر ما قاله الكبير غسان تويني في حفل تقديم كتاب المستشرق الروسي تيموفييف: "كمال جنبلاط الرجل والأسطورة":

قال غسان تويني في كمال جنبلاط، زميلَه في الجبهة الاشتراكية الوطنية سنة 1958، وظللت أنت أكبر من الخيبات، بل أكبر من الآمال، لأنّك كنت الرجل الأكبر من وطن. ألم تتعامل مع الشعوب، فتنال أنت الفرد الواحد وباسمك لا باسم حزبك ولا حكومتك "جائزة السلام بين الشعوب"، "جائزة لينين عام 1972؟ أو ليسَ عظيماً لوطنٍ صغير بحجمه مثل لبنان أن يقوم منه إنسان يكبر به الوطن. وكأنّ إطاره الضيّق ضاق بالبطل المعلّم المناضل المفكّر، فكبر حتى صار في حجم الزعيم التاريخي المنتظر، يتعاطى مع الشعوب وكأنّه صار في حجمها".

وتابع غسان تويني: كبّرت لبنان يوم صرتَ زعيماً عربي المدى والتأثير في مصاف زعماء يختلف التاريخ اليوم حول عظمتهم والإرث، وعليك لا يختلفون..

أما أنتَ، يا كمال جنبلاط، فتظلّ الحكمة والحياة في رسالة لا تفنى. رسالة الديمقراطية التي بها بشّرت في أول إطلالة لك عام 1946 في محاضرة أمام "الندوة اللبنانية" وكنتَ نجم ديمقراطية الجوهر، الديمقراطية التي لا يُحسن الدفاع عنها سوى الأحرار من أجل لبنان العقل الذي يتجاوز ذاته وحدوده والمفارقات، ليكون هيكل حريّات الآخرين أيضاً، ومداهم الحيوي الأرحب، لأنّ الديمقراطيين الأحرار لا يخافون بل يحاربون..
وحده الحكم الغاشم يخاف الحريّة والكلمة والعقل.

وألف تحيّة نابعة من القلب والعقل والوجدان لكَ يا مُعلّم: يوم ولدت ويوم استشهدت، ويوم تُبعث حيّا.