بعد ظهر ذلك اليوم الرابع من حزيران 1982، أي قبل ست وثلاثين سنة، إخترق فضاء بيروت سرب من طائرات "الميراج" الإسرائيلية الحربية، وخلال ثوان أغارت على المدينة الرياضية، وراحت الانفجارات تتوالى فتهز الاحياء المحيطة بها، خصوصاً في منطقة "الطريق الجديدة" حيث كان أحد مراكز قيادة منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات "أبو عمار".
وفي لحظات أخذت مواقع الدفاع التابعة لحركة "فتح" تطلق صليات الصواريخ الجوية فيما كانت طائرات العدو تتناوب على تدمير المواقع الفلسطينية المحصنة.
وفي الأثناء، كانت شوارع بيروت تشهد حالة إزدحام وفوضى، وبدأت مخارج العاصمة تغص بارتال السيارات المتجهة نحو المناطق الجبلية، والساحلية، القريبة والبعيدة، وقد تيسر لاحدى العائلات ان تصل الى بلدتها المطلة على بيروت وضواحيها بالكامل، وقد بانت الضاحية الجنوبية ومنطقة "الطريق الجديدة" في ظلمة مطبقة.
وبين فترة واخرى تُسمع رشقات رصاص، وإنفجارات متفرقة مع إطلاق قذائف ضوئية كاشفة.
كانت المنطقة الجبلية المطلة على بيروت قد غرقت في ظلمة شاملة، وفي الافق البحري تلمع أضواء متفرقة، وفجأة بدأت صليات صواريخ جوية تعبر فضاء الجبل باتجاه بيروت، وخلال لحظات كانت تظهر للعيان المواقع التي تستهدفها الصواريخ فتهب نيران ملتهبة وتدوي اصداء الانفجارات، ثم تسمع أصداء رشقات رشاشة، ثم يسود الصمت في الظلمة.
معظم المناطق الجبلية لم تكن تتوافر فيها وسائل التواصل والمعلومات باستثناء التلفون المنزلي، والتلفزيون، وقد تقطعت معظم الخطوط في تلك الليلة، وعمّ الظلام، ونامت العائلة الجبلية لتستيقظ مع طلوع الفجر على صوت ميكرفون يصرخ من مكان غير بعيد.
كان الصوت غريباً بلهجته، وفحواه: "إينذار...إينذار... بيت في جنينة... أمامه سيارة ازرق، وسيارة أبيض... مخرّب أمام البيت... يدمّر البيت... إينذار... (ويتكرر الانذار...!).
حاول اب العائلة ان يستعمل الهاتف المنزلي، ففوجئ بصمت السماعة، ولم يكن في الجوار جار قريب، أو عابر طريق، فخرج رب العائلة الى الشرفة، ففوجئ بالصوت يتعالى من قرب الانذار... وأدرك ان الانذار موجه الى بيته، ففي الحديقة سيارة زرقاء وسيارة بيضاء، إذا بيته هو المقصود...
لكن لم يكن هناك أحد أمام حديقة البيت، والبوابة الحديد مقفلة، و"التصوينة" عالية...
وفجأة اطل من خلف "التصوينة" مسلّح ووقف أمام البوابة في الخارج، كان ملثماً بكوفية مرقطة، ومدججاً بعدة الحرب... كان الملثم فدائياً فلسطينياً...
وطلع الصوت مكرراً الانذار، ولكن من نقطة أقرب، ثم ظهر مصدر الصوت، وكانت المفاجأة:
دبابة (طبعاً إسرائيلية) مستحكمة في الجهة المقابلة على حافة تلة، ومن برج تلك الدبابة كان مصدر ذلك الصوت الردئ الذي يتكرر، وربّ العائلة في حيرة، بل في إمتحان عسير...
فهناك العدو الإسرائيلي المحصن في الدبابة، والمنذر بالقتل والدمار. وهنا الفلسطيني الفدائي الناذر حياته لوطنه السليب، وشعبه المشتت، وهنا العائلة ووالدها الملتزم قضية فلسطين، والاعزل من أي سلاح... فما العمل، وما هو الحل؟!
...وتحول الوالد نحو الفدائي الفلسطيني، وخاطبه بصدق، وشجاعة: يا أخ... لو كنت مكانك لاتخذت قراراً بالابتعاد عن هذا البيت لسلامة العائلة التي فيه، وأمامك مكان آخر لاداء واجبك المقدس...
ويتابع الوالد سرد ما جرى، فيقول: ...لكن الفدائي أجاب بنفس الرد: أنا فدائي، وواجبي أن أواجه هذا (...)... وكررت رجائي له، لكنه أصر على قراره... وأضاف: "والله راح خلّي هذا (...) يبعد مية كيلومتر هون..."!
واذ أيقنت ان الفدائي مصمم على مواجهة دبابة العدو من النقطة التي تمركز فيها، كان علي ان أعرفه عن نفسي، وأرجوه ان يضبط أعصابه، فلا يطلق النار على العدو قبل أن أخرج بعائلتي إلى مكان آمن...
وفوجئت بالفدائي الفلسطيني يرد على رجائي قائلاً: إسمك ليس غريباً عنا... نعرفك... ونقدرك... لكن... جئنا لنقاتل...
أمام ذلك الحسم كان علي ان اكرر طلبي ورجائي بأن يتمهل باطلاق النار حتى ابتعد بعائلتي الى مكان آمن...
ويتابع الوالد سرد ما جرى بعد ذلك فيقول: ...وإذ سارعت إلى داخل المنزل لاطلب من العائلة الاسراع بالخروج، فوجئنا بانطلاق الرصاص من داخل الحديقة، ثم إنهمر الرصاص الاسرائيلي على المنزل، فاحتمينا في مطلع الدرج، وخلال دقائق قليلة إنفجرت قذيفة في الطابق العلوي، فنزل علينا ركام من تراب وغبار، وإنحجبت الرؤية بيننا، وثقل السمع، ورحنا نتلمس الدرج نزولاً حتى تمكنا من الخروج إلى الحديقة. كنا لا نزال في ملابس النوم، وكانت جروحنا، والحمدالله، خفيفة، وكان الرصاص المتبادل قد صار متقطعاً، وتوقف إطلاق القذائف، وإكتشفنا ان إحدى السيارتين شبه مشتعلة، بسبب انفجار قذيفة قربها، أما الثانية فكان زجاجها محطماً، وكان من حظنا ان مفتاحها كان في جيب أحد ابوابها، واذ خرجنا بها من الحديقة فوجئنا بخط التوتر العالي قد أصيب بقذيفة اسرائيلية فسقط على مسافة من البوابة، كانت جثة فدائي... وعلى بعد أمتار قليلة شاهدنا بضعة أفراد من الفدائيين كانوا يحتمون تحت سقف بناء كانوا يحتمون خلف جدار في منزل صغير قيد البناء.. ويختم الوالد: ألقينا عليهم التحية، وترحمنا على رفيقهم الشهيد، ولم نكن نعرف إن كان هو سبب ما أصابنا باصراره على فتح النار من حديقة منزلنا... ام كان سواه... فنكبة فلسطين فوق كل سبب واعتبار، وكان علينا أن نغيب عشر سنوات لنعود ونعيد بناء ذلك البيت!...
لقد كانت نكبة فلسطين الثالثة... فمتى يعود الفلسطيني الى بيته؟...
سؤال بغصة في قلب كل عربي لا ينسى نكبة فلسطين.