التسوية ليست قريبة... والتمسّك بفرنجية يزيد من الفوضى

06 آذار 2023 07:30:00 - آخر تحديث: 06 آذار 2023 09:09:45

يذكّر الوضع الذي يعيشه لبنان اليوم، بانقساماته السياسية واصطفافاته الطائفية، بمراحل سابقة وصلت فيها البلاد إلى حافة الحرب والانفجارات التي أدت في النهاية إلى تدخل خارجي فرض تسويات تبعاً لموازين القوى القائمة. أكثر المراحل أو الحقبات التي تتطابق مع الوضع القائم، هي تلك الممتدة بين 2007 و 2008 والتي انتهت بانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية عبر تسوية الدوحة من دون تعديل دستوري، وفتحت منذ ذلك الوقت مسارات تخالف كل قواعد الدستور وتشكيل الحكومات ومن بينها بدعة الثلث المعطل. لكن الفرق الوحيد عن تلك المرحلة هي الأوضاع الدولية وطريقة تعاطي الخارج مع لبنان، والاولويات الجديدة في ظل التغيرات في المنطقة، فلم تعد المصالح الدولية والإقليمية ذاتها ولا الضغوط هي السبيل الوحيد لانجاز التسوية.

المرحلة الثانية التي شهد لبنان فيها تعطيلاً وفراغاً استمر لسنتين كان بين 2014 و2016، وانتهت بتسوية فرضتها الظروف الدولية والإقليمية بعد توقيع الاتفاق النووي 2015 وما تلاه في المنطقة من توازنات جديدة، كان أبرزها التمدد الإيراني، وانتهت لبنانياً بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. لكن لبنان اليوم يمر بأخطر أزماته، فإذا كان ممكناً في حقبات سابقة اطلاق مبادرات توافقية وحوار،  بات الأمر شبه مستحيل اليوم مع التباعد السياسي والطائفي، إذ لم يعد أحد قادراً على اطلاق مبادرات جامعة، فيما ينحدر الوضع إلى مزيد من الاصطفافات والفرز وينذر بانفجارات أهلية وتفلت يعزز دعوات التقسيم. في 2008 كانت المعركة الشيعية – السنية على اشدها، فيما طابع المواجهة اليوم مختلفاً يتصدره "الثنائي الشيعي" وعنوانه رئاسة الجمهورية بالإصرار على سليمان فرنجية، فيما ترفض الكتل المسيحية الأساسية فرضه وتتحول المواجهة إلى حروب غير مباشرة تشكل خطراً على الكيان برمته.

انسداد الأفق الرئاسي والسياسي في لبنان يستحضر صراعاً على هوية البلد. وفي المقابل لا يبدو الخارج في صدد حسم الأمور عبر ضغوط مباشرة لانجاز الاستحقاقات، وإن كانت يده حاضرة في ملفات عدة وفق مصدر سياسي متابع، في وقت لا تزال قوى رئيسية في مقدمها "الثنائي الشيعي" وحزب الله خصوصاً، تراهن على تغييرات في المشهد الإقليمي تغطي مرشحه للرئاسة. ويشير المصدر إلى أن الموقف الدولي والعربي والإقليمي غير موحد تجاه لبنان، وهذا الأمر ظهر في اجتماع باريس الشهر الماضي، بعدم الاتفاق على خطة واضحة للتسوية والحل من بينها انتخاب رئيس للجمهورية، وهذا الأخير لم يُطرح على الطاولة ولا الأسماء المتداولة. الفرنسيون وحدهم يتحركون على خط الأزمة في شكل مباشر، وذلك بدعوتهم التي تكررت أخيراً عبر الناطقة باسم الخارجية الفرنسية آن- كلير لوجاندر بأن الحل في لبنان هو بـ"انتخاب رئيس يجمع الاطراف كلها، تشكيل حكومة فاعلة تباشر العمل وتنفيذ الاصلاحات". أما التلويح بعقوبات على المعطلين، فلم يعد يعني شيئاً في قاموس المسؤولين اللبنانيين في ضوء تعدد وجهات النظر الخارجية حول الملف اللبناني.

لكن الخارج لا يزال حاضراً من دون أن يمارس ضغوطاً كما في السابق، والفرق أن التقدم مرهون لبنانياً بتوافق إقليمي، خصوصاً بين السعودية وإيران، فهناك رهان على التفاوض السعودي – الإيراني وايضاً التقارب السوري – السعودي في ضوء الانفتاح العربي على دمشق بعد الزلزال المدمر، ولذا يجري الترويج على أن لا فيتو عربياً ضد فرنجية، وأن لا أحد تبلغ موقفاً سعودياً رافضاً ولا حتى أميركياً، خصوصاً وأن تلك الدول المؤثرة في الوضع اللبناني لم تتبن اسم مرشح بعينه بما في ذلك قائد الجيش جوزف عون. ويراهن "حزب الله" ومحوره على تنازلات تقدمها السعودية في الملف اللبناني، وعدم ممانعتها انتخاب فرنجية، مستنداً في الوقت نفسه على عدم وجود رفض فرنسي لانتخابه، ويعمل على تأمين أكبر عدد من الأصوات اي الوصول إلى 65 صوتاً، ولذا يجري اللعب على ورقة أن فرنجية لا يزال على علاقة جيدة مع الدول العربية وهو لم ينزلق إلى التخريب والمواجهة، فيتركز العمل على إقناع النواب السنّة، وتذليل ممانعة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط للسير بهذا الخيار والتصويت لمصلحة فرنجية. وتوازياً يراهن الحزب على الوقت والفراغ لتراجع مقومات الأطراف الأخرى المعارضة وتشتتها. 

ولعل ما حدث في عدم التمديد للواء عباس ابراهيم، يشير إلى وجود تدخل خارجي لا يزال قادراً على فرض مسارات معينة في البلد. ويقول المصدر السياسي في هذا الصدد إن تعطيل جلسة التمديد والعريضة النيابية جمعتها تقاطعات خارجية ستؤدي في مرحلة لاحقة إلى عدم التمديد لرياض سلامة. وقد ينسحب هذا الوضع على أي جلسة لانتخاب سليمان فرنجية رئيساً بتعطيل النصاب. وتشير معلومات عن مصادر دبلوماسية أن السعودية ترفض في شكل قاطع انتخاب فرنجية رئيساً، في وقت ارتفعت الاعتراضات المسيحية على انتخابه، وهو ما جعل "الثنائي الشيعي" يرفع اللاءات ضد قائد الجيش جوزف عون، ما ينذر بمواجهة شيعية – مسيحية وان كان التيار الوطني الحر يرفض انتخاب عون.

حتى الآن لا مؤشرات تدل على قرب الحل للملف الرئاسي، بل مزيداً من الصراع والتشنج السياسي والطائفي. أسهم قائد الجيش تراجعت بفعل الممانعة الشيعية وعدم الحماس لدى السنة، وفيتو فئة مسيحية يتصدرها جبران باسيل، وايضاً تعذّر انتخابه من دون تعديل دستوري، وتعذر أي تعديل أساساً بعد تعطيل جلسة التمديد لعباس ابراهيم، فيما خيار المرشح الثالث أو البحث عن صيغة تتجاوز فرنجية تصطدم بممانعة "حزب الله" وبري الذي دفع الصراع الى الذروة بترشيحه فرنجية علناً. واصرار "الثنائي الشيعي" على تنصيب فرنجية، يفتح مرحلة جديدة من الصراع برهانات مختلفة عن السابق. "حزب الله" خسر تغطيته المسيحية وكتلة التيار الوطني الحر، فيما "القوات اللبنانية" ليست قادرة على التحالف مع كتلة سنية وازنة بسبب تشتت بيئتها وخيار عدد من نوابها انتخاب فرنجية، وهو ما قد يفع الكتل المسيحية إلى الاصطفاف ونبذ خلافاتها والتوجه أكثر إلى طرح الفديرالية، وإن كانت تفتح على خطر حروب أهلية.

شارف الوضع اللبناني على الدخول في مرحلة تعطلت فيها كل إمكانات التسوية. وتتفاقم الأخطار في ظل الشغور والصراع بين القوى على هوية لبنان، فيما التمسك بفرنجية بدأ يُدخل البلد في حالة فوضى شاملة، قد تضع مصير البلد كله على بساط البحث. المؤشرات لا تفيد أن التسوية الخارجية أصبحت قيد الانجاز، فيما يتبين أن الشغور سيطول طالما تعجز القوى اللبنانية عن الاتفاق وانجاز تسوية لكل الاستحقاقات. لذا قد نشهد مزيداً من التصعيد والتعطيل لكل مؤسسات الدولة، تتكرس معها عملية محاصصة ونهب كثمن للخروج من الدوامة وفرض معادلات جديدة تغيّر من هوية لبنان.