Advertise here

لبنان... الجمهورية الضائعة بين المؤامرة والمقامرة!

05 آذار 2023 21:05:06

يستذكر الإعلامي نقولا ناصيف، في كتابه "ريمون إدّه جمهورية الضمير" أنّ العميد ريمون إدّه كان يحتفظ عن والده الرئيس إميل إده بخارطة للبنان، وهي الأولى التي تظهر فيها حدوده الدولية بعد ضم الأقضية الأربعة وهي:صيدا، وبيروت، وطرابلس، وعكار والبقاع، ليصبح فيما دولة لبنان الكبير الذي أعلنه المفوض السامي على لبنان وسورية، الجنرال غورو، سنة 1920 من قصر الصنوبر بحضور غالبية القوى السياسية آنذاك، وفي مقدمهم البطريرك الماروني، الياس الحويك، وأعضاء الوفد المفاوض لتحقيق هذا الإنجاز الكبير. 

ويروي ناصيف نقلاً عن العميد أنّ هذه المفاوضات، التي جرت في العام1919، استغرقت ثلاث زيارات للوفد اللبناني إلى مؤتمر فرساي، وأنّ والده، الرئيس إميل إدّه، كان في عداد الوفد مع الحويك إلى جانب المطران عبدالله الخوري، والأمير توفيق أرسلان وغيرهم. وفي الزيارة الثالثة لم يكن استقبال رئيس الحكومة الفرنسي جورج كليمنصو للبطريرك الحويك لائقاً لشدة كرهه لرجال الدّين، ولم يصافحه إلّا بعد أن توسط له والده. وبعدها سألهم عن مطالبهم فأجابه إدّه والمطران الخوري، نريد ضم الأقضية الأربعة إلى متصرفية جبل لبنان التي اتّفق عليها سنة1861. فأمسك كليمنصو القلم ورسم خطاً من الناقورة صعوداً وصولاً إلى دمشق، فأبلغه الوفد بأنّ دمشق عاصمة سورية. وبعدها اتّفق الجانبان أن تكون سلسلة جبال لبنان الشرقية هي الحد الفاصل بين لبنان وسورية، وصولاً إلى النهر الكبير الجنوبي شمالاً. وهكذا أصبحت حدود لبنان كما أعلن عنها غورو سنة 1920. فعلّق الشاعر حليم دموس آنذاك على هذا الإنجاز الكبير متهكماً على الموارنة بقوله:

"أبناء مارون هلّلا كان سعيكم
إلّا وبالاً عليكم غير ميمون.
ظننتم أن كبر لبنان يريحكم
فتهجرون مقام الذل والهون
تالله ما حسبكم إلّا الصغير،
ففي تكبير لبنان تصغير لمارون"

إعلان دولة لبنان الكبير في تلك الفترة، لم يمنحه استقلالاً منجزاً لأنّه بقي تحت الوصاية الفرنسية حتى الإستقلال في
 العام  1943، لكن الخلافات السياسية بين الزعامات المارونية لم تمنع الرئيس إميل إده من تبنّي ترشيح الشيخ محمد الجسر لرئاسة الجمهورية سنة 1932، ولم تكن أي مشكلة لهذا التصرّف بحضور الدولة المنتدبة، فانقسم البلد فيما بعد بين الحزبين الدستوري بزعامة الشيخ بشارة الخوري، ورياض الصلح الذي انحاز إلى العروبة، والكتلة الوطنية بزعامة إميل إدّه الذي كان يريد إبقاء لبنان تحت الوصاية الفرنسية، لأنّ إدّه كان يخشى على لبنان من الانقسام الطائفي. لكن تنامي الشعور العروبي والثقل السياسي الذي أمّنه وجود رياض الصلح إلى جانب الشيخ بشارة، ومعارضة بريطانيا للسياسة الفرنسية في المنطقة رجّحت كفة الحزب الدستوري، ومكّنت اللبنانيين من الحصول على الاستقلال بتركيبته الحالية في موضوع الرئاسات الثلاث التي تكرّست في اتفاق الطائف. 

ودون أن ننسى الدور الفاعل الذي لعبه المعلّم الشهيد كمال جنبلاط مع الرئيس جمال عبد الناصر في أول لقاء بين الزعيمين في دمشق عقب إعلان الوحدة بين مصر وسورية، بمطالبة عبد الناصر باحترام الخصوصية اللبنانية، وكان عبد الناصر قد ألقى خطاباً ترحيبياً بجنبلاط تطرّق فيه إلى علاقة المسيحيين مع الغرب، وتحديداً مع فرنسا. فموقف كمال جنبلاط هو الذي شجّع قائد الجيش  اللواء فؤاد شهاب، أن يشرط لقاء الرئيس عبد الناصر في خيمة نُصبت على الحدود اللبنانية - السورية في اللقاء التاريخي والوحيد بينهما بنهاية ثورة 1958، وأوصلت شهاب إلى رئاسة الجمهورية. وقد يكون اللقاء الأخير الذي جمع المعلّم ببشير الجميّل ونصيحته له برفض الدخول السوري إلى لبنان، وكان السبب المباشر لاغتياله في السادس عشر من آذار 1977. وما السياسة التي ينتهجها رئيس الحزب التقدمي، وليد جنبلاط، منذ ذلك التاريخ سوى استكمالاً لهذا النهج  السيادي المتجذّر بالزعامة الجنبلاطية منذ 400 سنة، والتي عنوانها لبنان بحدوده الطبيعية وتنوّعه الإنساني الذي لا يمكن لأحد أن يدّعي بأنّه سيادي أكثر من غيره . وهو ما كان سائداً في زمن الإمارتين المعنيّة والشهابيّة.

من الواضح جداً أنّ طائفة الموحّدين الدروز خسرت الكثير من امتيازاتها التي تفاخر بها من أيام الإمارة على مدى سبعة قرون، حتى في زمن المتصرفية. لكن لا أحد ينكر أن هذه الشريحة العربية هي علة وجود هذا الكيان وبقائه واستمراره. وهي لا تسعى إلى منافسة أحد، لا في السلطة ولا في التسلّط. وأنّ وليد جنبلاط  ومن قبله المعلّم كمال جنبلاط يُعتبران من صنّاع القرار في هذا البلد، ومن صنّاع قيادييه ورؤسائه لأية طائفة انتموا. فعندما كان كمال جنبلاط يصنع الرؤساء كانت هناك هامات وطنية مشهود لها بالكفاءة والنزاهة. وكذلك وليد جنبلاط. ولما انتقل مطبخ الرؤساء إلى خارج الحدود لم نعد نرى إلّا أزلاماً يلهثون وراء المناصب والمكاسب والتنفيعات والسمسرات. واليوم عندما أردنا أن ننتخب رئيساً صُنع في لبنان  تحوّل أولي الأمر إلى عملاء ومغامرين ومقامرين في بلدٍ معلّق منذ أربع سنوات بين الحياة والموت، ولا يقدّر أحد متى يلفظ أنفاسه. وأمّا زعماؤنا فكل ديكٍ على مزبلته صياح. فالبلد متروك لقدره. فمن تجّار الدولار، إلى تجّار المحروقات والدواء، والمواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، إلى سماسرة التهريب والتخزين ورفع الأسعار، وفرض الضرائب، والزيادات التي لا تعرف الرحمة ولا الشفقة. زيادات على الكهرباء، والمياه، والهاتف، والأقساط المدرسية والنقل. والقرطاسية، وكل ما يخطر بالبال وصولاً إلى ربطة الخبز. وفي نهاية الأمر يحدّثونك عن التجربة الأنبوبية، وزواج المتعة، والولادة القيصرية. وبالكاد أن يتذكر السادة النواب القابعين خلف متاريسهم أنّ الناس لا بدّ أن تحاسبهم على هذا التقصير الفاضح في انتخاب رئيس الجمهورية، لكنهم لن يرفّ لهم جفن. وبالأمس عندما جدّد الحزب التقدمي الاشتراكي الدعوة للحوار لم يريحهم هذا الموقف. فالدعوات إلى التقسيم والفدرلة بدأت تأخذ حيّزاً من اهتماماتهم، وكأنّهم لم يتعلموا من دروس الماضي. فهذا البلد عصي حتى على التقسيم، والمغامرات الدونكيشوطية.

وأخيراً فإنّ ثقافة العمالة تقوم على أمرين: طامع في الخارج وعميل في الداخل. يتعهّد الأول بدفع الرشوة، ويتولى الثاني تنفيذ التعليمات، وما يُطلب منه. أمّا ثقافة المقامرة فعمادها الإفلاس المادي والأخلاقي وعندما تذهب الأخلاق يذهب كل شيء وتصبحون على وطن...

(*) المصدر: موقع صباح الخبر