Advertise here

لا تهدموا أم الشرائع

03 آذار 2023 11:59:03

تتوالى انهيارات قوائم الدولة اللبنانية منذ ثلاث سنوات بشكلٍ مطرد، بما يشبه أحجار "الدومينو". وهو أمر متوقع في ظل عدم اتّخاذ أي إجراءات إصلاحية للخروج من الأزمة، أو حتى إيقافها عند حدٍ معين.

فالتعطيل يبدأ من رأس الهرم، من خلال الشغور الرئاسي ليمتدّ إلى حكومة تصريف الأعمال مروراً بالمجلس النيابي العاجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، حتى أننا شهدنا مؤخراً عدم قدرة اللجان النيابية على الاجتماع للتداول بأمور ملحّة وضرورية.
 
دوائر الدولة معطّلة لأكثر من سبب: التعليم متوقّف. المستشفيات تقف عند حافة الانهيار. قطاع مصرفي مكبّل في ظل تهديد بوضع لبنان على القائمة الرمادية، والتي قد تتحول إلى سوداء في أي لحظة. وتقارير دولية تبشّرنا بأنّ لبنان سيصبح الدولة الأكثر فقراً في العالم، وذلك في المدى المنظور، ما لم يتم اتّخاذ إجراءات إنقاذية سريعة، وصولاً إلى وضع السلطة القضائية المأساوي الذي شهدناه مؤخراً، أكان في ملف جريمة انفجار المرفأ، أو في ملف ملاحقة المصارف بجرم تبييض الأموال.

 فالقضاء هو بمثابة حجر "الدومينو" الأخير الذي يتهاوى مبشّراً بالسقوط القريب نحو القعر.

"أعطِني قضاءً أعطِك دولة". ليست مجرد مقولة رائجة، أو عبارة تقليدية يتم تردادها عبر العصور لإضفاء أبّهة شكلية على السلطة القضائية أو القضاة كأفراد. بل القضاء هو العدل، والعدل أساس الملك، ومن يدكّ أساس الهيكل لن يسلم من أحجاره المتساقطة.

أثناء الحرب العالمية الثانية طُلب من ونستون تشرشل أن يستخدم نفوذه للضغط على إحدى المحاكم بعد أن أصدرت حكماً بنقل مطار حربي قريب من إحدى المدارس، فكان ردّه " أهون أن نخسر الحرب من أن يخسر القضاء البريطاني هيبته".

والجنرال ديغول، عند عودته إلى فرنسا بعد تحريرها، ولدى معرفته بأنّ مؤسّسات الدولة قد انهارت، سأل عن القضاء وأجيبَ بأنّه بخير، فقال مقولته الشهيرة " إذا كان القضاء بخير ففرنسا بخير. فهو الدعامة الأساسية للنهوض بالدولة".

أمام هذا الواقع، لا بدّ من إطلاق صرخة مدوية إلى كل صاحب سلطة، أو نفوذ، أو تأثير، وإن كان بسيطاً، والى القضاة أنفسهم لإنقاذ السلطة القضائية وإبعادها عن التجاذبات السياسية والطائفية والمطامع الشخصية والغايات الداخلية أو الخارجية. ولتكريس وتأكيد مبدأ استقلالية القضاء قانونياً عبر إقرار القوانين اللازمة وممارسة عبر الاحتكام إلى القانون والضمير فقط.

أدعوكم للوقوف أمام آثار معهد الحقوق الروماني في وسط بيروت، والذي ما زال يتردّد بين أحجاره صدى صوت إميليوس بابنيانوس، ودوميتيوس أولبيانس، اللذان ما زالت تشريعاتهما تشكّل أساساً ومنطلقاً للقوانين الحديثة. فلو قُدّر لهما أن يتكلما عبر أثير العصور لقالا: لا تهدموا أم الشرائع، واتركوا حجر الأساس للأجيال القادمة كي يشيّدوا عليه صروح أحلامهم.