Advertise here

الرُعونة السياسية

23 شباط 2023 12:14:57

فتحت المآسي والويلات التي تعيشها بعض الشعوب الباب أمام نقاش ثقافي وسياسي وعقائدي، وهي أنتجت إشكالية لا يمكن تجاهلها، بل لا بد من التوقف عندها، والعمل على إصلاح ما أمكن من جوانبها الخبيثة التي تزيد من قساوة العيش لجمع كبير من الناس، من دون أن يكون لهؤلاء ذنب في أسباب هذه القساوة، لكنهم يتحملون النتائج المُكربة لرعونة الحاكم أحياناً، أو لمفاسد قواعد الحكم أحياناً أخرى.

 

أوجدت الاتفاقيات الدولية مجموعة كبيرة من القواعد القانونية العامة، وأرست بعض الأعراف المُلزمة منذ مؤتمر وستفاليا الذي أنهى الحروب الأوروبية البينية في عام 1648 حتى اليوم؛ لكن هذه الاتفاقيات وتلك الأعراف لم تُحقق العدالة، وهي ما زالت خاضعة لمعايير موازين القوى العالمية أحياناً، أو لاستبداد عقائدي أو ميثولوجي مارسه بعض الحكام، من دون أن تكون أمامهم روادع ملزمة تمنعهم من التصرف بما ليس لهم، أي بما هو حق للناس بالعيش بكرامة وبأمان. وقد أبدع الكاتب الروسي الشهير دوستويفسكي في رواية "الفقراء" في وصف حالة الظلم والقهر التي يعيشها بعض الناس؛ عندما قال: "لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي لرفضت الوجود في ظل ظروف قاهرة إلى هذا الحد".

 

لا يمكن اعتبار الوقت الراهن من عمر البشرية مثالياً، رغم أن الكثير من المفكرين – ومنهم الأميركي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما – اعتبر أن سقوط الاتحاد السوفياتي السابق أوصل البشرية إلى نهاية تاريخ الصراع الأيديولوجي، ووضع العالم في واحة من الاستقرار سيتقلَّص فيها الظلم والاستبداد لمصلحة ليبرالية رحومة واعدة. لكن ذلك لم يتحقق بالفعل، وها هو العالم أمام أزمات قد تكون أخطر من أزمات الماضي، ومجموعات كبيرة من الناس في أكثر من قارة، بدأت تشعر باليأس من تحديات المستقبل، ومنها من يعيش حاضراً مؤلماً، لا يليق بالحياة البشرية.

 

من المؤكد أن بعض أسباب الصعوبات القائمة في دول عديدة؛ ناتجة من عوامل طبيعية، خصوصاً منها الزلازل والسيول والإعصارات الكبيرة التي تنامت في الوقت الراهن، أو أنها بسبب التكاثر السكاني السريع وعدم توافر الموارد الكافية لتأمين سُبل عيش لكل سكان المعمورة الذين زاد عددهم عن 8 مليارات نسمة. لكن المؤكد أيضاً أن رعونة ممارسة الحكم في العديد من الدول، كما الفوضى العالمية الهدامة؛ ساهما في تراجع منسوب الرفاه عند بعض الشعوب، وأنتجا مآسي فظيعة لا يتحملها الضمير الإنساني عند شعوب أخرى.

 

أثبتت التجارب أن الحكم الرشيد الذي يستند إلى القواعد الآدمية في ممارسة السلطة يساعد في تخفيف الويلات عن الناس مهما كبُر حجمها، ويؤمّن بيئة مناسبة للعيش، بصرف النظر عن الإمكانات المالية المتوافرة في الدولة، بينما رعونة الحاكم واستبداده يقفان وراء الكمّ الأكبر من الويلات والصعوبات التي يواجهها الناس، وأحياناً يحكم الرشيد والمستبد تحت المظلّة ذاتها من الشعارات الوطنية والإنسانية، وربما بغطاء من القوانين المرعية ذاتها. لكن الواضح أن الحاكم المستبد يعمل على خلق الفوضى في البلاد لادعاء قدرته على ضبطها والتوفير على الناس قسوة ويلاتها، بينما رعونته في ممارسة السلطة هي التي تدفع المبدعين والعباقرة إلى مغادرة البلاد، كما تدفع الرساميل النافعة إلى الخروج منها، والفوضى تقود إلى المراوغة والتأجيل والعرقلة، وحينها لا فرق أن يموت الناس بواسطة زلزال مُدمر أو بالاختناق أو بالترهيب والرصاص القاتل.

 

الناس في العديد من دول العالم – لا سيما في بعض شرقنا المُعذب – ضحايا للحروب وللعنف ولسياسة أنظمة أعطت أولوية للمقاربات الميثولوجية الخفية. وبعض الأنظمة لا تُجنِّد نفسها لخدمة الناس، بل تعمل بكل قوتها لاستمرار فئة أو أشخاص في تولي السلطة من دون وجه حق، وأحياناً لتنفيذ أجندات غريبة مرتبطة بمشاريع تحالفية خارجية تخفي طموحات عنصرية وشوفينية، كنا اعتقدنا أنها تلاشت مع التطورات التي حصلت في العالم منذ بداية القرن، لا سيما عندما علت شعارات تأكيد مبادئ سيادة الدول على أراضيها، وأيضاً من خلال الحراك الشعبي الواقعي - والافتراضي عبر وسائل التواصل – والهادف إلى صيانة الحريات العامة ومعايير حقوق الإنسان في مختلف دول العالم.

 

يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: أحياناً كثيرة نرغب بأشياء لا تستحق أن تكون مرغوباً بها، ونعجب بأشخاص لا يستحقون الإعجاب. وأردف: من يقاتل الوحوش فعليه أن يحذر كي لا يتحول إلى واحد منهم.

 

بعض أماكن العالم لم تعُد صالحة للعيش بسبب الرعونة السياسية والاضطرابات، ويزداد فيها الجنون والانفصام.

 

العيش الذي خلقه الله كان من أجل ما هو جيد وجميل وليس العكس.