Advertise here

في ذكرى الحريري: أي دروس وعبر؟

16 شباط 2023 07:25:54

يصعب أن تمر ذكرى الرابع عشر من شباط، ذكرى إستشهاد الرئيس رفيق الحريري، من دون استعادة تلك الحقبة السوداء التي عاشها لبنان إبّان تغييبه عن الساحة السياسيّة اللبنانيّة والعربيّة والتي قادت البلاد، ولا تزال، نحو التشرذم والتعثّر على مختلف المستويات.

سياسة التصفية الجسديّة، على بشاعتها، رائجة في المنطقة العربيّة، وفي دول العالم الثالث، إذا صح التعبير. وهي سياسة تعود إلى القرون الغابرة بحيث تتم معالجة الخلاف حول الرأي السياسي من خلال القتل المباشر، وغنيٌ عن القول طبعاً إنّ غياب سياسات المحاسبة والمساءلة والمعاقبة هو الذي أدّى إلى مراكمة هذه الثقافة وتكريسها في المجتمعات العربيّة.

لعل الكثيرين لم يتفقوا مع الرئيس رفيق الحريري على سياساته الاقتصاديّة والاجتماعيّة لا سيّما لناحية الاقتراض الواسع وإطلاق سندات الخزينة بفوائد مرتفعة، لا بل خياليّة في بعض الأحيان، وصولاً إلى الجنوح الطبيعي نحو التخصيص وتقليص الوظيفة الاجتماعيّة للدولة بما يعرّض الطبقات الكادحة والفقيرة إلى مخاطر غياب الضمانات المطلوبة للعيش الكريم.

ولعل هؤلاء كانوا يأخذون أيضاً على الرئيس الشهيد تسرّعه في توقّع حلول السلام في الشرق الأوسط على خلفيّة انعقاد مؤتمر مدريد سنة 1991 وتقدّم مبدأ «الأرض مقابل السلام». طبعاً، من يقرأ تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي وكيفيّة إغتصاب العصابات الصهيونيّة أرض فلسطين في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي وصولاً إلى نكبة 1948، يدرك تماماً أنّ السلام مع الاحتلال مستحيل لأنّه لن يتنازل عن أي من «مكتسباته» التي نالها بالإرهاب والقتل والتدمير مدعوماً من الغرب بطبيعة الحال.

ولكن، بمعزل عن كل ذلك، لا يمكن إغفال الدور الوطني الكبير الذي لعبه الرئيس الحريري في احترام التوازنات الداخليّة وحماية صيغة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين وفي إعادة لبنان إلى الخريطة الدوليّة، بعدما كانت تلاحقه على مدى سنوات طويلة صورة البلد الغارق في الحرب الأهليّة البشعة، وفي إعادة بناء الثقة بلبنان سياسيّاً واقتصاديّاً وماليّاً.

لقد كان الحريري رجل «الطائف» الأول، وهو الذي كان شارك في صناعته بعدما كان مشاركاً من الأساس في مؤتمريْ جنيف ولوزان في منتصف الثمانينات. واتفاق الطائف الذي يُرجم اليوم من «الفدراليين الجدد» والتقسيميين العبثيين أرسى صيغة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين وحسم نهائيّة لبنان وعروبته.

من هنا، كان الحريري يفهم بعمق المعادلات الوطنيّة والعربيّة التي أرساها الاتفاق وسعى بكل قوته إلى تطبيقها بدقة. لذلك، ساهم تغييبه بضرب الصيغة وإضعافها واستبدالها بسلوكيّات وممارسات تقف على طرفيْ نقيض تماماً من مضامين وثيقة الوفاق الوطني وروحيتها.

لقد عانى لبنان من فقدان التوازن الوطني بتغييب الرئيس الحريري، وهو لم يكن آخر من انضم إلى قافلة الأحرار التي كانت الوصاية السوريّة قد افتتحتها باغتيال كمال جنبلاط سنة 1977 وتواصلت سياسة التصفية الجسديّة مع كوكبة من الشرفاء الذين تبقى ذكراهم تنير الطريق على دروب الحريّة والكرامة والسيادة والاستقلال.

المأساة اللبنانيّة لا تقتصر على فقدان تلك الشخصيّات الكبيرة، بل تتعداها إلى مشكلة أعمق بكثير تتمثّل في عدم استخلاص الدروس والعبر. كان من المفترض أن تدفع خطورة هذه الاستهدافات إلى توحيد البلاد وتجاوز الانقسامات ولكنها غالباً ما أدّت إلى نتائج عكسيّة نتيجة احتدام الصراع وتعمّق الخلافات بشكل كبير.

كم يفتقد لبنان لرجال الدولة الذين يرفعون شأن المصلحة الوطنيّة فوق اعتباراتهم المصلحيّة الخاصة ويدفعون باتجاه تحقيق ما يتطلع إليه الشعب اللبناني من طمأنينة وكرامة وعيش كريم!