Advertise here

الحريري الذي لا يموت

14 شباط 2023 08:01:14

زادت السنوات الـ18 التي مرّت منذ ذلك اليوم المشؤوم، شعور الكثير من اللبنانيين بحجم الخسارة وفداحتها. إغتيل رفيق الحريري في مثل هذا اليوم وهو في عزِّ عطائه واستعداده للعمل. كانت السنوات السابقة شاهداً على طريقة عمله وشغفه بالإنجاز، منذ لحظة تنظيف شوارع بيروت من آثار الدمار الإسرائيلي إلى إعادة إعمار البنى التحتية وشق الطرقات والاوتوسترادات، إلى المطار الجديد والجامعة اللبنانية في الحدث، إلى ورش بناء محطات الكهرباء واستعادة التيار الكهربائي في ساعات بعد كل عدوان إسرائيلي، ثم مروراً بأفواج عشرات ألوف الشبان والشابات الذين أرسِلوا إلى أهم جامعات العالم ليعودوا مُسهمين في استنهاض بلدهم بدل أن يذهبوا ضحايا ميليشياته الطائفية...

كل ذلك خسره اللبنانيون بطنٍّ من المتفجرات في ذروة تخصيب الحاقدين كرههم وعزمهم على الخلاص من الرجل. ثم فقدوه مع إمعان سلطة الفساد والميليشيا في نهب البلد وافقار مواطنيه وتفجير مقوماته. أظهرت النتائج المتراكمة للإغتيال أنّ القتلة إنما أرادوا وضع حدٍ لنهجٍ بأكمله رأوا ثماره بأم العين وهو ما لم يرغبوا باستمراره.

كان لبنان الخارج من الحرب يحتاج أشخاصاً مثل رفيق الحريري، يعرفون تماماً توازنات بلدهم ومصالحه الوطنية والقومية ولم ينخرطوا يوماً في ميليشيات الدمار. الحريري كان أبرز هؤلاء الأشخاص، له من تاريخه وعمله وعلاقاته وشغفه ما يجعله متقدماً عليهم جميعاً، وله من مميزاته الشخصية وأخلاقياته ما جعل منه في سرعة صاروخية زعيماً شعبياً، ليس في طائفته وحدها فقط، بل في كل الأوساط والطوائف والمناطق. باتت أي زيارة ينوي القيام بها إلى منطقة لبنانية مثار غضب سلطات الوصاية السورية، وبات قراره المساعدة في شراء إنتاج زيت المزارعين مؤامرة على الأمن القومي.

صار رفيق الحريري مزعجاً لأنّه صار كتلة تغيير تلوح في الأفق. فمشاريع البنية التحتية التي انطلق بها وأرقام النمو المحققة كانت ستُتوج بأكبر تكتل نيابي استقلالي في البرلمان، وعندها ستبدأ رحلة الاستغناء التدريجي عن المبادرة السورية الكريمة ومنتجاتها على رأس المذاهب والأحياء، وسيكون اللقاء الوطني الشامل الذي شق الطريق إليه البطريرك نصر الله صفير و»لقاء قرنة شهوان»، أساساً للتغيير واستعادة الدولة وإعادة بناءئها، بعيداً عن تحكم الخارج وميليشيا الداخل.

قتل الحريري لأنه وطني لبناني، وهو قبل ذلك قومي عربي.

في حديث ليلى خالد المناضلة المعروفة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى الزميل غسان شربل، تتكشف جوانب لا يعرفها كثيرون عن الحريري. كان منخرطاً في حركة القوميين العرب، ونقل أسلحة للمناضلين من دولة إلى أخرى، وهو الذي نظّف الزجاج في منزل الدكتور وديع حداد إثر ضربه بصاروخ في محاولة لاغتياله، وبعد التنظيف تناول الجميع سندويشات اللبنة من إعداد «الرفيق».

لم أتفاجأ بذكريات ليلى خالد، ففي خريف 1998 كنت في عداد وفد الحريري إلى الأمم المتحدة، وقد اضطر للبقاء في اجتماع مع فاروق الشرع في إحدى القاعات لمدة أطول بسبب مرور نتنياهو أمام باب القاعة ووقوفه طويلاً وكأنّه يريد تحقيق سبقٍ والتقاط صورة لدى خروج الحريري من اللقاء، لكننا نبّهناه للبقاء في الداخل إلى أن غادر رئيس الحكومة الإسرائيلية ليأسه من الانتظار كما يبدو. عندما خرج الحريري أخيراً بادر مرافقيه قائلاً: أين دمكم الحامي وحسكم الوطني؟ ألا يوجد بينكم من يقوم بضربه ومسح الأرض به، والباقي عليّ؟

عندما قرأت ما نشره الزميل غسان شعرت أنّ حلقات رواية الاغتيال قد اكتملت، فالقاتل لا يريد إنساناً وطنياً شريفاً، يبني ولا يهدم، يخدم قضيته ولا يتاجر بها، وهو فوق ذلك راغب بصنع الفارق وقادر عليه.