ثمة حديث عن سيناريوات عدة لكسر حلقة الدوران المفرغة حول انتخاب رئيس الجمهورية، خصوصاً بعد تداعيات زلزال سوريا وتركيا والتطبيع مع دمشق، أبرزها ينطلق من الاتصالات والمباحثات في شأن عقد جلسة تشريعية للتمديد لقادة الاجهزة الامنية للبناء على نتائجها والتقدم في حسم توجهات الاستحقاق الرئاسي. وفي المقابل ثمة انتظار لاتصالات السفيرتين الأميركية والفرنسية لشرح أجواء اجتماع باريس ومقرراته، حيث يراهن البعض على تلقف ما نتج عنه وتقدير ما إذا كانت الدول الخمس ستطلق مبادرات أو تكثف ضغوطها لانجاز الاستحقاقات اللبنانية. لكن اي سيناريو حتى الآن غير مكتمل ولا تتوفر له شروط النجاح في ظل الاستعصاء الداخلي المستمر وارتداد كل القوى الى بيئاتها حيث أصبحت أسيرة شروطها التي عطلت كل الوساطات الداخلية للتوافق على انتخاب رئيس.
لا تسمح موازين القوى الحالية لأي طرف وحده بإيصال مرشحه لرئاسة الجمهورية. فطرح اسم قائد الجيش جوزف عون سقط أو أُجهض، وحتى محاولات البطريرك الماروني بشارة الراعي لجمع الفرقاء المسيحيين وصلت إلى طريق مسدود، اذ يتبين أن في إمكان قوى أساسية التعطيل في انتظار تطورات إقليمية ودولية تصب في مصلحتها لحسم الملف. فـ"حزب الله" الذي يتبنى سليمان فرنجية رفض اسم عون، وهو الطرف القادر فعلاً على منع أي مرشح آخر للوصول الى الرئاسة، علماً أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل يرفضه في الأساس ويضع فيتو عليه. سيكون لباسيل دور اساسي في ما يتعلق بالجلسة التشريعية، فهو الذي يمكنه أن يؤمن النصاب ويرفع شروطه حول البنود المدرجة، ولذا رفض إدراج التمديد لقائد الجيش الذي تنتهي ولايته مع انتخاب رئيس الجمهورية وهو شرط لقطع طريقه للرئاسة.
وعلى الرغم من السيناريوات المطروحة داخلياً، خصوصاً بعد اجتماع باريس فإن إيقاع الحركة السياسية الداخلية لا يزال في حلقة مفرغة في ما يتعلق بالتسوية وانجاز الاستحقاقات، طالما أن الحراك الخارجي لم يصل الى مرحلة تشديد الضغوط أو بلورة حل للأزمة، وإن كان حكي في اجتماع باريس عن فرض عقوبات تستهدف معرقلي انتخاب الرئيس. ويتضح وفق الأجواء أن القوى اللبنانية لا تأخذ التوجه الدولي على محمل الجد، وتضعه في إطار التهويل الذي لجأت اليه الدول الخارجية سابقاً من فرنسا إلى الاتحاد الأوروبي، فهو تهويل لا يستند إلى رافعة من الضغوط الدولية التي تساهم في الوصول إلى التسوية.
عدم اكتراث الفرقاء اللبنانيين بالتهويل الدولي، يعيده مصدر سياسي مطلع إلى عدم بحث اجتماع باريس بالأسماء ولا بتفاصيل الوضع الداخلي، ما يعني أن هناك وجهات نظر مختلفة حول الوصول إلى اتفاق تتلقفه القوى السياسية اللبنانية وتشكل وعاءً لتنفيذه، لكن الأهم من ذلك هو المواقف الدولية المتباعدة حول صيّغ الحل، فالفرنسيون وفق المصدر لا مشكلة لديهم في الاتفاق على اي اسم للرئاسة إن كان سليمان فرنجية أو جوزف عون، فالاساس يبقى انجاز الاستحقاق. وفي المقابل يبدو موقف السعودية واضحاً برفض فرنجية بصفته مرشحاً للممانعة، فيما الولايات المتحدة لم تفصح عن موقفها في تأييد اي مرشح علناً، ما يعني أن الداخل اللبناني سيستمر في ممانعته واستعصائه خصوصاً "حزب الله" الذي بدأ يعد العدة لفرض مرشحه سليمان فرنجية وان استمر التعطيل لاشهر مقبلة.
ستظهر معادلات جديدة إذا عُقدت الجلسة التشريعية وتأمن لها النصاب. فباسيل يراهن على مكاسب جديدة تحوله مقرراً في الشأن الرئاسي كما "حزب الله" الذي يدير التوازنات بدقة. ومن الاحتمالات المطروحة أن الإصرار على فرنجية قد يدفع بباسيل إلى ملاقاة القوات اللبنانية والكتائب لمنع وصوله، وهو ما يبقي الوضع على حاله، وبما أن الخارج لم يتبن أي اسم، فإن حظوظ قائد الجيش مع رفض "حزب الله" وباسيل له، تتراجع، على الرغم من حديث البعض عن أن "القوات اللبنانية" يمكن أن تسير باسمه إذا حصل توافق داخلي عليه ودعم دولي، لكن مقومات هذا السيناريو غير متوافرة خصوصاً بعد اجتماع باريس.
كل ما هو مطروح لا تتوافر له المقومات لانجاز الاستحقاق الرئاسي وأيضاً التسوية التي تحتاج الى أكثر من اتفاق. ما يميز المرحلة المقبلة هو محاولة تحسين الشروط وانتزاع المكاسب لتوظيفها في الاستحقاقات. وعلى هذا تتجه الانظار إلى باسيل الذي يسعى الى تحقيق مكاسب بالجملة، أولاً بتحوله الى مقرر في الاستحقاق من مدخل التعطيل، إلى مكاسب سياسية مسيحياً ولبنانياً، وبالتالي تحسين موقفه في الحوار مع "حزب الله". وبإصرار رئيس التيار الوطني الحر على رفض قائد الجيش سيكون معطلاً للاستحقاق والتسوية بما يرتد سلباً على المسيحيين أولاً واللبنانيين عامة. فالبحث عن دور مؤثر في الرئاسة من حسابات ضيقة وتعطيلية وتركيزه على قطع الطريق أمام مرشحين مثل عون وفرنجية لا يعني أنه سيكون قادراً على تعويمة اسمه وفرض أجندته على "حزب الله" الذي يمتلك أوراق قوة داخلية وإقليمية تمكنه من تجاوز باسيل لا بل فرض مشيئته عليه.
الأجواء الداخلية والخارجية لا تشير إلى أن لبنان بات على مشارف الخروج من أزمته السياسية والتقدم لانتخاب رئيس للجمهورية. فكل دولة شاركت في اجتماع باريس، ستلجأ، وفق المصدر السياسي إلى الاتصال ببعض القوى لحضها على الذهاب إلى التسوية وبلورة آليات للخروج من الفراغ، فيما يبقى "حزب الله" الطرف الذي يسعى الجميع إلى معرفة توجهاته، وهو الذي يتمسك بفرنجية مرشحاً "لا يطعن المقاومة بالظهر"، لكن توفير فرص وصوله ما زالت متعثرة في ظل رفض "القوات" و"التيار" لانتخابه، إلا إذا حدثت تطورات بين الداخل والخارج تدفع أحد الفرفاء المسيحيين للمشاركة في جلسة انتخابه، وهذا لا يتم إلا بتغيير في موازين القوى. وعليه يبدو أن تفعيل الحراك الدولي في ظل الظروف السائدة سينتظر رد الفعل الإيراني لتُبنى على اساسه توجهات المرحلة المقبلة. ولا شك في أن المتغير في الأولويات اللبنانية جاء بعد زلزال سوريا وتركيا، بالتوجه نحو التطبيع مع دمشق، عبر فريق وزاري لبناني ضغط "حزب الله" لإرساله إلى سوريا ولقائه بشار الأسد.
تعزز كل هذه التطورات محور الممانعة بقيادة إيران لفرض أمر واقع في لبنان. تستثمر القوى المتحكمة في القرار اللبناني وفي مقدمها "حزب الله" المستجدات لتعزيز شروطها في مواجهة الحراك الدولي حول لبنان ودفعه لإعادة وصل العلاقات مع دمشق لا سيما من بوابة فرنسا. ولذا قد ينعكس مسار التطبيع السوري على انتخابات رئاسة الجمهورية، فقوى الممانعة تسعى اليوم إلى استثمار الواقع الجديد الذي أحدثته كارثة الزلزال للسير في فرض مرشح "حزب الله" للرئاسة وإعادة تشكيل السلطة وفق أجندتها. ومع سعي باسيل لتحصيل مكاسب جديدة ومحاولات "حزب الله" لفرض تسوية بشروطه، تستمر المراوحة في البلد وصولاً إلى زلازل سياسية واقتصادية وأمنية تضع البلد على حافة الهاوية.