في هذا البلد الهالِك والمُهلك يبتدع المواطن اللّبنانيّ طرقًا في العيش تناسب الظّروف، فتراه يتلبّس في كلّ ظرف عملًا يليق بهذا الظّرف أو ذاك، وينبري لمواجهة الدّنيا والقدر، بعزيمة وهمّة، و" شطارة في التّجارة"!
ومن المضحك المبكي الحال التي وصلنا اليها، وهذه الحال عزّزت مظاهر تجارة بيع المال نتيجة أزمة المصارف والتّلاعب بسعر صرف الدّولار! فالمصارف تتعامل مع المودعين بفوقيّة وتعالٍ ومزاجيّة، والمواطن يحتاج الى تدابير يوميّة لتسيير أمور حياته، وهذا ما دفع بعضهم على اقتناص فرصة الاضطراب الحاصل في العلاقة بين المواطن والمصارف، فوجدّ الحلّ في بيع المال والتصريف على جوانب الطّرقات لكلّ عابر ومحتاج! فصار لكلّ لبنانيّ مصرفه الخاصّ الّذي يخدمه دون منّة المصرف وطابور الانتظار!
وينتشر الصّرّافون الجوّالون على الأرصفة، حتّى صار لكلّ واحد منهم رصيف طوّبه باسمه، وصار لكلّ زبون صرّافه الذي يقصده، وإذا لم يجده، تراه يهاتفه ويطلبه بالاسم بعدما توثّقت بينهما علاقة ثقة" بسعر" الصّرف المفترض! وهذه العمليّة اليوميّة منظّمة على الأصول، فتراهم يحملون كدسات من آلاف الّليرات اللّبنانية، يلوّحون بها في الهواء بقوّة تُشعرك أنّها ستطير من بين أصابعهم، يبيعونك إيّاها مقابل دولارات قليلة تقبض عليها أنت بكامل قوّتك وكأنّ فيها حياتك وقوّتك، وكأنّها سيف السّلطان الذي ستحارب به حياتك القلقة، فتراهم يقتربون من السّيّارات المزدحمة، ينادون على بضاعتهم:" صيرفة ، صيرفة" بحماسة ولهفة تضعك في حيرة إزاء من يقع عليه اختيارك " لتنفّعه"!
ولا يقتصر الأمر على بيع المال، لكنّك أيضًا ترى أنواعًا شتّى من السّلع المنتشرة على جوانب الطّرقات، فما عادت الأرصفة المتهالكة مخصّصة للمشاة، ولكنها تحوّلت الى مفارش طويلة وعريضة لبضائع ومنتوجات لكلّ ما يحتاجه المنزل! فهنا أمامك رصيف مخصّص لبيع المحارم الورقيّة بكلّ أنواعها وأشكالها، تُباع بالجملة أو بالقطعة، يكثر منها الرّخيص الثمن لتناسب كلّ الميزانيات، فالعذر ممنوع والشّراء واجب!
وهناك رصيف وقف فيه بائع خضار وفواكه موسميّة ينادي بأعلى صوته ويقدّم لك "عروضات" مغرية! ويسوّق بضاعته بأنّها زراعة طبيعيّة ودون موادّ كيماويّة، لعلمه أنّ المواطن بات في قلق دائم من كلّ ما يتناوله من أطعمة.
وهنالك على رصيف آخر، بائع تنبك وتبغ وفحم وأراجيل متنوّعة الأشكال والألوان والأسعار! كيف لا، والأرجيلة صارت حياة الحضارة الحديثة، فهي رفيقة الجميع من كبار وصغار! لا تحلو الجلسات من دونها، ولا تكتمل الفرحات إلّا في حضرتها، ففي دخانها المتهالك تنفيسٌ لوجع ويأس، وقد عَظُم مقامُها إلى درجة أنّها صارت الآلة السّحريّة الّتي " تغيّر الجوّ وتُنسي الألم"!
وماذا أخبركم بعد عن بلدي لبنان؟ بلد المتناقضات العجيب، بلد الأمل واليأس، الضّعف والقوّة، الأخلاق والفساد، الحياة والموت، الإرادة والاستسلام. وما كلّ هذه المظاهر الجديدة الّتي نراها في مجتمعنا المتعب والمرهق سوى شذرات أرواح تتمزّق، وعقول مخدّرة، وأحلام مجمّدة حتى إشعار آخر، وعائلات متفككة يمزقها الفقر والألم والحرمان، وطموحات تتكسّر على أسوار حديديّة صلبة صنعتها ظروف قاسية تعاونت جميعها لإغراقنا.
ومع كل هذه المفارقات هذا هو لبنان الكرامة والشعب العنيد الذي يأبى الاستسلام، ويرفض الخضوع، ويقتنص الفرص ليبقى واقفا على قدميه. عافاك الله يا شعب لبنان.