Advertise here

أزمة إيران في عالم مُتغيِّر

29 أيار 2019 12:31:42

قبيل الهجوم الأميركي على العراق عام 2003 أرسل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مبعوثاً شخصياً لمقابلة الرئيس العراقي صدام حسين في محاولة لاستدراك الموقف وتجنب اندلاع حرب في المنطقة. يقول يفغيني بريماكوف أنه نقل رسالة من بوتين تطلب من صدام حسين التنحي عن الرئاسة بسبب "حتمية الحرب الأميركية على العراق". طبعاً حينها راهن الرئيس العراقي على عدم اندلاع الحرب وأبلغ بريماكوف أنه تلقى النصيحة ذاتها قبل 10 سنوات من قادة الاتحاد السوفياتي وها أنه لا يزال رئيساً للعراق.

بوتين، الذي تسلّم رئاسة الاتحاد الروسي في العام 2000 كان يعتمد الخيار الديبلوماسي لتأمين الحضور الروسي في القضايا الدولية وخاصة في الشرق الأوسط، إذ فقدت أنظمة القومية العربية السند الدولي الذي يؤمن التوازن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وعجز روسيا عن حماية أصدقائها التقليديين دفعها إلى محاولة إيجاد المخارج لأزمة الخليج بالشراكة مع الولايات المتحدة. بوتين ذاته اليوم "نفض يديه" من إطفاء التوتر بين واشنطن وطهران وقال: "لا نعتزم القيام بدور فرقة إطفاء في الخلافات الدولية".

طبعاً أخطأ صدام حسين في قراءة المشهد في الولايات المتحدة والعالم بعد عامين على أحداث 11 أيلول، والسؤال اليوم؛ هل ينجح القادة الإيرانيون في قراءة التحولات في الولايات المتحدة والعالم بعد عامين على رئاسة دونالد ترامب؟

فالتحول الكبير الذي حصل في نظام المصالح الدولي بعد ترؤس ترامب للولايات المتحدة حتّم التوجهات الذاتية للشعوب والحكومات، وأطلق ما يُسمى بالمصالح الوطنية الداخلية، وانسحب ذلك على الدول والأقطاب الأقل شأنا في الساحة الدولية، وبالتالي تراجعت فكرة المواجهة بالأحلاف وبالمقاربات الآيديولوجية. وروسيا التي ذهبت باتجاه الشرق وأقامت التكتلات الاقتصادية مع دول الجوار الروسي والصين ومنظمة شانغهاي للتعاون وغيرها اكتشفت أن النظام الدولي سرعان ما تخطى فكرة الأحلاف الإقليمية، وأن الحروب التجارية التي أطلقها ترامب، بوجه المنافسين والحلفاء على حد سواء، إنما تعيد رسم خريطة المصالح بين الدول وتُهمّش دور تلك الأحلاف.

فترامب جرّد كوريا الشمالية من شراكاتها التقليدية مع الصين وروسيا قبل الدخول في حوار مع كيم جونغ أون، ويكفي كلام بوتين الأخير لتشعر إيران بانكشافها في مجلس الأمن وعدم ضمان الحماية الروسية بالفيتو هناك. ونجح ترامب في تفكيك الصلات المعنوية أو الروابط المُحفّزة للتحالفات الاقتصادية العابرة للحدود والكيانات، وبالتالي فإيران اليوم تقف في هذه المواجهة لوحدها، كما كان العراق عام 2003، لا يفيدها الموقف الأوروبي بشيء، ولا يُعوّل قادتها على توجهات وعواطف الشعوب. وليس في مقدور إيران اليوم إلا تحريك أذرعها في مواجهة الولايات المتحدة، لكن فعلياً فهذا التحريك لن يكون إلا في مواجهة حكومات تلك الجماعات ودولها ومجتمعاتها ومصالح شعوبها الاقتصادية ليس إلا.

طبعاً في قياس المَنفعة الاقتصادية من ارتفاع حدة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران تكون روسيا مستفيدة من اندلاع أي صراع قريب من خطوط إمداد الطاقة في الخليج. وتتحوّل حينها إلى الخزان الرئيس والآمن لإمداد العالم بالنفط والغاز، ويصبح للأوروبيين مصلحة استراتيجية في استكمال خطوط نورد ستريم 2 والسيل الجنوبي أو التركي، ومواجهة ترامب الذي يحاول تقليص اعتماد أوروبا على مصادر الطاقة الروسية. وقد سبق لبوتين أن طمأن الصين إلى قدرة روسيا تعويضها عن النفط الإيراني. ولا شك سيعوّض ذلك الخسائر التي تكبدتها روسيا جراء العقوبات الأميركية نتيجة احتلالها للقرم. هذا عدا عن الرغبة في التفرج على صراع يدور بين منافِسَيْن واحد إقليمي وآخر دولي وهما يُبدّدان جزءا من قوتهما. المنفعة الروسية قائمة وموجودة في ظل هذا الستاتيكو ولمجرد خروج إيران من سوق النفط العالمي، لكن إضافة إلى كل ذلك يُخفي الانكفاء الروسي عن لعب دور الوساطة مسألة أخرى وهي تراجع عامل الثقة بينهم وبين الإيرانيين الذين لا يأمَنون جانب روسيا التي التزمت بجدول أعمال مشترك مع نتانياهو في سورية.

العالم تغيّر والأمة الأميركية تعيش في حالة إعادة تشكيل الوعي الداخلي وإعادة ترسيم فهماً جديداً لمنظومة المصالح، وفي غضون ثمان سنوات انتقلت من اختيار رئيس ديموقراطي أسود مُسالِم إلى رئيس يعكس البياض العميق والفاقع للأمة الأميركية. وإعادة التشكيل هذه تترك أثرها على النظام الدولي الذي يُعاد تشكيل توازناته، وبالتالي تقع إيران في هذه اللحظة في المنطقة الرمادية بين نظامين عالميين وقد يقودها سوء التقدير إلى الانزلاق لما أودى بصدام حسين عام 2003.

مع بدايات مسار أستانة عام 2017 وبدء التمايز الروسي - الإيراني في سورية، حاولت إيران التودّد لتركيا، عن طريق قوى عربية على علاقة وتواصل مع الحزب الحاكم في تركيا، وطلبت نقل أجواء مفادها "فلنتحاور بشكل مباشر حول سورية، فنحن أهل منطقة واحدة ونعرفها جيداً، ولا حاجة لدخول الروس، أو غيرهم، بيننا". لقد جمع الخوف من الأكراد حينها بين إيران وتركيا وكان من المفترض أن يشكل ذلك مدخلاً لتفاهم أوسع، لكن كانت روسيا قد استحكمت بإدارة المسرح السوري وبتوظيفه لصالح علاقاتها الدولية والتوازنات مع الولايات المتحدة والغرب.

بانسحابه من الاتفاق النووي عبّر ترامب عن توجه عالمي جديد، إضافة إلى تحوّل في العقيدة النووية الأميركية، وفي تحديدها لـ"الإرهاب النووي" باعتباره الخطر الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة، خاصة بعد وضع الحرس الثوري على قائمة الإرهاب، فإيران نووية ليست مشكلة للعرب وحدهم فحسب، لاسيما وأن التقنيات الحربية التي تمتلكها غالباً ما تصبح في متناول ميليشيات منتشرة في المنطقة ولا تحكمها ضوابط أو شرعيات، فكيف إذا امتلكت التقنية النووية؟ لقد جهد العالم بأسره لاحتواء التبعثر النووي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وجرى تعقب التقنيات والعلماء والمعلومات بجهود بعضها لا يزال مستمراً لحد الآن. وتم سحب الترسانة النووية من روسيا البيضاء وأوكرانيا وكازاخستان مقابل محفزات اقتصادية وتنموية وضمانات.

فعالم اليوم، بما فيه روسيا وعلى رغم كل الفوضى التي فيه، لا يتساهل مع احتمالات خطرة كهذه ولا يحتمل اتفاقاً يتيح لإيران امتلاك السلاح النووي.