Advertise here

الجميع راحلون أما الكتّاب المبدعون فباقون

29 أيار 2019 09:18:28

في هذه الأيام الصعبة حيث لم يعد للضمير دور، وللفعل قيمة وللصدق مكان وللآدمية مركز، بل يتبوأ الدور كل شاطر في التحريف والكذب والسرقة واللعب على الكلمة وتشويه الحقائق، يسرني قارئي الكريم سرد حادثة تُعدُّ بكلّ المقاييس عبرة لكلِّ مبدع يحترم نفسه، ولكل عظيم خلفه امرأة عظيمة مثله...

عندما أنعم الرئيس جمال عبد الناصر بقلادة النيل على الكاتب الكبير توفيق الحكيم وهذه القلادة ترتقي إلى مستوى الرؤساء والملوك... وكان هناك تمنٍّ من الرئيس عبد الناصر أن يجري الترقيم بصمت بعيداً عن الضوضاء والحفلات الرسمية... 

لكن الرئيس عبد الناصر أصرّ أن يجري احتفال رسمي... ووقف الكاتب الكبير أمام المرآة في صباح يوم تكريمه ينظر إلى صورته في بذلة جديدة استعداداً لهذا اللقاء...

وفجأة أطلت زوجته وأصرّت عليه راجية: إياك أن تنحني وأنت تصافح رئيس الجمهورية، فردّ توفيق باندهاش: لماذا لا أنحني؟! وأنا أنحني لكلّ مخلوق حين أصافحه...

قالت الزوجة: إنك تساوي عندي رئيس الجمهورية نفسه وقالت بإصرار: أنا أرفض أن ينحني الفكر للسياسة!!

وذهب توفيق إلى الاحتفال الرسمي وأمام دهشة الجميع لم ينحن ولم يخفض رأسه أمام الجميع وظهر فيلم يصور توفيق الحكيم رافعاً قامته وهو يتسلّم قلادة النيل منتصب القامة كأنه ملك يتحدث إلى ملك!

وفي حديث صحافي تعليقاً على ذلك الحدث الاستثنائي، قال الكاتب الكبير أنه لم يتمنَّ أن يكون في يوم من الأيام وزيراً أو نائباً لأنه وحسب تعبيره أن مكانة الكاتب في البلاد المتحضرة المتقدمة هي أكبر من مكانة مطلق أي وزارة... ومن عجيب الصدف أن الكاتب عباس محمود العقاد يؤمن بنفس مبادئ توفيق الحكيم... ويذكر أنه قيل له في أحد الأيام أن رئيس مجلس الوزراء اقترح أن يكون محمد حسنين هيكل وزيراً للمعارف ولم يفكر في اختيار العقاد لهذه الوزارة، ضحك ورد بكل ثقة وقال: إن رئيس الوزارة يعلم أنه ينزّل العقاد درجتين عندما يقترح تعيينه وزيراً للمعارف... وبكل قناعة وتواضع واحترام للنفس...

ومن غرائب الأمور أنه لم يكن حال كل الأدباء هذا الإيمان بسمو دور الكاتب والأديب والشاعر وأصحاب المواهب وللدلالة، عندما اجتمع أصدقاء الكاتب الدكتور طه حسين وسألوه هل ينادونه يا دكتور أو يا باشا... كانت زوجته حاضرة فردَّت وقالت: بل باشا!! وأصبح الجميع ينادونه بعد ذلك يا باشا وذهبت الباشوية وبقي اسم طه حسين بدون أي لقب أهم من ألف باشا وألف دكتور...

وكانت أمنية أمير الشعراء أحمد شوقي أن ينال رتبة باشا قبل أن يموت وكان يشعر بالإهانة إذا ناداه أحد "شوقي بيه" وذات مرة قال له سعد زغلول: تأكد أن كلمة شوقي وحدها وبالمطلق ستدخل التاريخ أما الباشوية وكل الألقاب ستموت تلقائياً... وماتت الباشوية وبقي شوقي.

في هذه الأيام المكفهرة حيث تضيع الملامح الحقيقية لمبدعين وكتّاب وشعراء وروّاد لا بُدّ من الإقرار أن الجميع زائلون وتبقى جواهر الأمم في لبنان وغيره مبدعوها وكتّابها.


*رئيس جمعية طبيعة بلا حدود