Advertise here

الارتطام الكبير اقترب... هل تتلقّف القوى السياسية مبادرة جنبلاط؟

29 كانون الثاني 2023 17:45:04

يوماً بعد يوم تزداد ظلمة النفق الذي دخلته الأزمات اللبنانية المعقّدة والمتشابكة داخلياً وخارجياً، وتتضاعفُ سرعة تدحرج كرة الثلج نحو سحيق هاويةٍ عميقة، حيث باتَ موعد الارتطام الكبير قاب قوسين أو أدنى، وحيث بات حجم الأزمة المعيشية والاقتصادية يهدّد أكثر من نصف اللبنانيين بالمجاعة مع تفلّت أسعار المواد الغذائية والأدوية والمحروقات من أي قيود ورقابة، ومع تحليق سعر صرف الدولار الأميركي عالياً دون رقيبٍ أو منطق، تتسّع هوة الانقسام بين المكوّنات اللبنانية على عكس القاعدة المنطقية للطبيعة البشرية والأخلاقية والإنسانية، القائمة على التضامن والتكافل والوحدة.

كما وتراكُمُ الملفات الخلافية السياسية المستجدّة حول الشغور الرئاسي، وانعقاد مجلس الوزراء، والإصلاحات الاقتصادية، من سماكة الجدار الفاصل بين القوى السياسية والجماعات المكوّنة للدولة، ما ينذر بعواقب أكثر من وخيمة ليس على وحدة الدولة ووحدة مؤسّساتها، بل على العلاقة بين تلك المكوّنات أفراداً وجماعات.

 ولعلّ انفجار الأزمة بين القضاة على خلفية ملف التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، وارتباطها بالانقسام السياسي، نذير شؤمٍ كبير كشف انقسام البنية الفكرية للمجتمع اللبناني، حيث الأرقام وجهة نظر، وكذلك العدالة المبنيّة على الوقائع وتسلسل الأحداث والشهود وجهة نظر، كما الحرية بمفهومها المطلق والحق في التعبير عن الرأي وجهة نظر أيضاً.

مما لا شكّ فيه أنّ الانقسام السياسي - الاجتماعي في لبنان يضرب جذوره في أعماق البنية المجتمعية للمكوّنات الروحية وفيما بينها، يسهم بشكلٍ كبير في رفع منسوب القلق على الوجود، ويقلّل من فرص نجاح الحوار وقبول الرأي الآخر، كما أنّ فشل القوى السياسية بعد خروج القوات السورية من لبنان عام 2005، في الاتّفاق على آلية استكمال تطبيق الدستور (اتّفاق الطائف) الذي أنهى مرحلة الحرب الأهلية المريرة، وأعاد وضع سكة بناء الدولة الوطنية الجامعة ومؤسّساتها، واختلاف وجهات النظر بين تلك القوى على تفسير بعض المواد الدستورية الأساسية (الصلاحيات والشراكة وفصل السلطات)، وفشل القوى التي شاركت في طاولات الحوار المختلفة منذ العام 2006 على عناوين ورؤى متقاربة حول الاستراتيجية الدفاعية، ودور لبنان وموقعه، وارتباط القوى الداخلية بأزمات المنطقة الإقليمية، ودخول حزب الله في الحرب السورية واليمنية، واصطفاف القوى الداخلية بوجه بعضها، وفشل التيار الوطني الحر في تقديم نموذج صالح وموضوعي في إدارة عهد الرئيس السابق ميشال عون، وفشله في معالجة أزمة الكهرباء، ودوره في تعطيل الحياة السياسية، وتمديد عمر الأزمات متكِئاً على تحالف مار مخايل عام 2006 مع حزب الله، وفشل الطرفين في تقديم الحلول المقنعة والجدية للأزمات المتلاحقة، وعدم التعامل بمرونة مع الاقتراحات الممكنة لمعالجة تلك الأزمات، وما نتج عنها من انتفاضة اجتماعية، كما  رفض القوى الأساسية التعامل بشفافية مع التحقيق في انفجار المرفأ، والمثول أمام المجلس العدلي، وعدم تحمّلها مسؤولية ما وصلت إليه الأمور من انسداد لأفق الحل، وتحلّل مؤسّسات الدولة؛ كل ذلك وضع اللبنانيين في وجه بعضهم بعضاً في الشارع، ما يُنذر بانفجارٍ خطير ومصيرٍ مجهول.

يتّفق معظم المتابعين للأزمات اللبنانية، على أنّ الخروج من النفق يتطلب تسوية دولية - إقليمية، بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران من جهة، وبين المملكة العربية السعودية وإيران من جهة أخرى، وأنّ فرنسا تلعب دوراً محورياً في تقريب وجهات النظر بين تلك الدول، وأنّ على اللبنانيين ملاقاة الدور الفرنسي في منتصف الطريق وتلقّف المبادرات الخارجية، كما يتفق الجميع على أنّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية تُجمع عليه أكثرية اللبنانيين يعيد ربط لبنان بعلاقة وثيقة مع الدول العربية، لا سيّما المملكة السعودية ودول الخليج، هو المدخل الأساس لوقف حالة الانهيار تلك، ويترقب هؤلاء نتائج اللقاء الذي قد تستضيفه العاصمة الفرنسية خلال النصف الأول من شهر شباط القادم، وهذا ما يدفع برأي البعض، القوى السياسية على التشدّد بمواقفها، وعلى فتح الملفات الخلافية لتضعها فوق الطاولة بانتظار التسوية القادمة. 

وحده وليد جنبلاط يسبح عكس التيّار، ويطلق المبادرة تلوَ الأخرى لا ليحرّك الجمود القاتل في السياسة اللبنانية المملّة فقط، بل لدفع الأمور نحو مساراتٍ جديدة علّه يُخرج السفينة إلى بر الأمان، وينطلق في مبادراته المختلفة من قاعدة أنّ الحل يجب أن يبدأ داخلياً، وباتّفاقٍ محليٍ يلبي المصلحة الوطنية الداخلية يلاقي المبادرات الخارجية. لقد اكتوى جنبلاط من نفاق المجتمع الدولي وشعاراته الرنّانة التي تذهب أحياناً إلى عكس ما تقول، وهو يدرك دقة ميزان التوازنات الداخلية ومخاطر انحراف أي من المكوّنات الوطنية نحو مواجهةٍ تبدأ في الشارع ولا تنتهي خلف المتاريس المشتعلة. فجنبلاط، ومنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، متلبسٌ هواجس انفراط عقد العيش المشترك. ويُعرِبُ جنبلاط أمام زوّاره عن خطر رفع أي فريق شعار عزل فريق آخر، مستذكراً بذلك أحداث 13 نيسان 1975، ويدرك تماماً صعوبة انتزاع تسويةٍ داخلية ترتبط بميزان الصراعات الإقليمية بين القوى المؤثّرة والمرتبطة بالداخل اللبناني.

في 9 آب 2022، وقبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، وفي مقابلةٍ مع فضائية المملكة الأردنية، أطلق وليد جنبلاط مبادرته الأولى بلقائه وفداً من حزب الله، محدّداً خلالها مواصفات الرئيس الجديد، وقال: "الرئيس المقبل عليه وضع برنامجٍ مع حزب الله لاستيعاب سلاحه ضمن هيكلية دفاعية للدولة اللبنانية"، وأضاف "الحزب التقدمي الاشتراكي يريد رئيساً يملك برنامجاً اقتصادياً -  اجتماعياً واضحاً، واقتصادياً اجتماعياً سياسياً إصلاحياً".

 جنبلاط، وخلال لقائه مع وفد حزب الله آنذاك، أبلغه رفضه وصول رئيس تحدٍ من أي طرف من الأطراف، كما أبلغه رفضه انتخاب رئيسٍ من فريق 8 آذار، بما فيهم مرشّح الحزب، سليمان فرنجية.

لم يتلقّف حزب الله مبادرة جنبلاط تلك، واعتبرتها بعض القوى السيادية بمثابة خروج جنبلاط عن مواقفه التي خاض الحزب على أساسها انتخاباته النيابية عام 2022، لكن الوقائع أثبتت عكس ذلك، فجنبلاط كان متيّقناً مٍن أنّ مكوّنات المجلس النيابي الحالي، بخلافاتها ومواقفها، غير قادرة على إيصال رئيسٍ جديدٍ للجمهورية، وهذا ما اختبره اللبنانيّون خلال الأشهر الخمسة الماضية، من هزلية مسلسل انعقاد جلسات انتخاب الرئيس كل يوم خميس، والتي التزمت خلالها كتلة اللقاء الديمقراطي تأييدَ المرشح ميشال معوّض الذي لم يحظَ بتأييد الكتل التي تدّعي التغيير، والتي لم تتفق على تسمية مرشّح يكتسب ثقة اللبنانيين.

انسداد الأفق السياسي، وانقطاع خطوط التلاقي والتواصل بين القوى السياسية، ورفض التكتّلين المسيحيّين، التيّار الوطني الحر والقوات اللبنانية، تلبية دعوة رئيس المجلس النيابي للحوار والاتفاق على اسم الرئيس العتيد، كما الانهيار المتسارع في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بات ينذر بخطر كبير دفع جنبلاط للمبادرة مجدداً في طرح حلولَ الممكن والخروج من الاصطفافات، فالتقى النائب جبران باسيل، ووفدٍ من حزب الله والنائب سامي الجميّل، وأرسل الوزير أبو فاعور إلى معراب والرياض، داعياً للتسوية والتلاقي والاتّفاق على رئيسٍ جديدٍ وعلى القاعدة نفسها التي حدّدها في مبادرته الأولى، رئيسٍ يحمل برنامجاً إصلاحياً - اقتصادياً - اجتماعياً - سياسياً، يستكمل تطبيق اتّفاق الطائف، ولا يشكّل وصوله تحدٍ لأي طرف داخلي، ويعيد لبنان إلى دائرة المصالحة العربية مع الرياض ودول الخليج العربي والمجتمع الدولي.

هل تلاقي القوى المتحكّمة بمفاصل السياسة جنبلاط بمبادرته، ويلتئم المجلس النيابي لانتخاب رئيسٍ جديدٍ من بين الأسماء التي طرحها جنبلاط (جهاد أزعور، صلاح حنين، جوزيف عون)، للخروج من النفق، أم سيسير لبنان إلى أجله المحتوم بإرادة أولياء الأمر.