Advertise here

قراءةٌ نقديّة لروايةِ "عين الدَّم"- للروائيِّ كامل توفيق أبوعلي

هُويَّة الموحّد بين فاعليَّةِ الوجودِ الإنسانيّ وصقيعِ الحرب

20 كانون الثاني 2023 11:58:24 - آخر تحديث: 20 كانون الثاني 2023 11:58:49

تستند رواية "عين الدم" إلى قصَّة حُبّ حصلت في زمن الحروب ومعركة دروز عين داره 1711 للميلاد. وقد اشتهرت"عين داره" بهذا الاسم بعد المعركة الدَّامية والَّتي جرت وفقاً للمؤرِّخين، ما بين الحزبين القيسيّ واليمنيّ؛ وحينما انتصر القيسيّون على اليمنيّين تفرّدوا بحُكم الإمارة ومناطقها كافَّة حتَّى نهاية العهد 1841 للميلاد.
وتُسطِّر رواية "عين الدم"  تاريخ حُبًّا مستحيلًا بين حبيبين. فهذان العاشقان لم يستطيعا العبور نحو تحقيق اتِّحادهما بالزواج، ولم يتمكَّنا من الهروب من رُبقةِ التقاليدِ أو السَّطوةِ الإجتماعيَّة وتسلُّطها عليهما، تُطالعنا عواصف الحبيب الجيَّاشة توقًا وانعتاقًا وحنينًا لمعشوقته: "هي لي وطن يوم لم يكن لي وطن". فيُقاسي ما يُقاسيه من ألمِ الفُراق: "ما أقسى أن نكون وحيدين.." .
إذ تستعرض قراءتنا النقديَّة لرواية "عين الدم"، العملَ الرِّوائيِّ في المُجملِ الَّذي ينبثقُ من الرُّؤى السياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والثقافيَّةِ والحضاريَّةِ لدى كُتَّابِ الأدب (كُتَّابِ الشِّعرِ والقصَّة والرِّوايةِ والمسرحيَّةِ وسواها) وكُتَّاب التَّاريخ؛ كما ينبثقُ أيضاً من الانغماسِ في القراءاتِ و سِعة الاطلاعِ على النِتاجِ الفكريّ والثقافيّ عند الشعوبِ، والتبحُّر في تنوُّع رؤى الإنسانيَّة وغِناها المعرفيّ والثقافيّ ضمن البيئتين الزَّمانيَّةِ والمكانيَّةِ، لِمَا قد يُشكِّلُ بيئةً أو مادةً معرفيَّةً، أو زادًا ثقافيًّا مُعينًا على الكتابةِ والرصد والتحليل.
بيد أنَّه يُراودنا السؤال التالي: هل "عين الدم" تندرجُ لتكون ضمن قائمة الرِّواية التاريخيَّةِ أو التأريخيَّةِ، أم أنَّها تستلُّ من أحداثِ التاريخ وصراعاتهِ موضوعاً كي تسمو بهِ، لتحقِّقُ هدفًا ابداعيًّا أو ثقافيًّا أو حضاريًّا؟ أم أنَّها تسعى إلى إحياءِ و بعث ِماضٍ تليد لقراءةِ الحاضر والمستقبل؟
في الماضي، آثر بعضُ الباحثين الإشارة إلى أنَّ القَصص التاريخي كان شائعًا في القرن الميلادي العاشر من خلال تشكُّل الملاحم وتمجيد مآثر الأبطالِ والفروسيَّةِ والخوارقِ الملحميَّة والقَصص الرُّومانسيَّة؛ بيد أنَّ جورج لوكاتش يُشير إلى أنَّ نشأة الرِّوايةِ التاريخيَّةِ جاءت في مطلع القرن التاسعِ عشر، علمًا بأنَّ بعض النُقَّادَ الغربيين أوضح أنَّ هذا النوع الأدبي إنَّما يعود إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ وُجِدت رواياتٌ ذات موضوعاتٍ تاريخيَّةِ في الملاحم والأساطير غابر الزمن. علماً بأنَّ تلك الملاحم إنَّما تكادُ تضاهي في الأدب العربي الأقاصيص التاريخيَّةِ التي كان يرويها وهب بن منبه، حتَّى وإن شكَّلت المحاولات الأوَليَّةِ للقِصَّةِ التاريخيَّة في الأدبِ الغربي والعربي على حدٍّ سواء، وإن لم ترقَ بعناصِرِهَا الفنيَّة إلى مُستوى الفنِّ الرِّوائيّ أو القَصصي .
وفي حين اختلفت الآراءُ النقديَّةُ وتعدَّدت وجهات النظر حول نشأة الرواية التاريخيَّة في الأدب العربي وحضارته، غير أنَّ المُجمع أو المُتَّفقُ عليه من الدِّراسات الأدبيَّةِ والنقديَّةِ والحضاريَّة والتَّاريخيَّة وسواها الكثير، يكمن في تمثُّلِ ظهورِ الرِوايةِ التَّاريخيَّةِ في الأدبِ الغربي. فالروايةُ التَّاريخيَّةُ تعتمدُ على الحدثِ التَّاريخيّ كمرجعيَّةٍ لأحداثها الروائيَّةِ، بما يُمثِّلُ وجودَ مرجعيتين: المرجعيَّةُ الأولى، هي المرجعيَّةُ الحقيقيَّةُ المُتّصلةِ بالحدثِ التَّاريخي ( أي مجموعةٌ من التمثُّلاتِ والأحداث المُتجهة نحو الماضي، كما تلك المُتَّجهةِ نحو المُستقبل)؛ في حين تتجسَّدُ المرجعيَّةُ الثانيةُ بما يُعرف بالمرجعيَّة التخييليَّةِ النَّابضةِ بالحياةِ والمُقترنةِ بالحدث الرِّوائي بذاتِه. وأحياناً كثيرة قد يتحايلُ الرِّوائي على الحقائِقِ التاريخيَّةِ بما يخدِمُ أحداث روايته وعناصر التشويق الكامنة فيها.   
من هنا، عُدَّت الكتابةُ الروائيَّةُ أحد أبرز الأنواعِ الأدبيَة اللصيقة بالواقعِ الاجتماعيّ والنفسيّ والسياسيّ والتاريخيّ والجغرافيّ والشخصيّ _الذَّاتيّ، والمُعولم اليوم. ويركَّزُ فنُّ الرِّواية في مُجمله على الأحداث والشخصيَّات الروائيَّة؛ مُستقرئًا بُنية الشخصيَّات ومدى تفاعلها في المتنِ الحكائيِّ- السرديّ مع بعضها، من خلال مستويات التعاونِ أو التعارُضِ والاختلاف، ويعمل الكاتِبُ الرِّوائيّ على إبراز منظومة القيم العامة وتلك الفرديَّة لدى أبطال روايته، بما تُمثِّلُه من مرتكزاتٍ ضرورية، وما تُشكِّله من مِدمَاكٍ أساس في العمل الرِّوائيّ، وما تقومُ عليه الروايةُ من بنائيَّةِ زمانيَّةٍ ومكانيَّةٍ وأحداثٍ سرديَّةٍ، تدفعها تطوُّراتُ الأحداث والتحرُّكات والإشكاليَّات الَّتي تتمُّ الاضاءةُ عليها وينبغي معالجتها في متن الحكاية. 

ولعلَّ ما يؤخذُ على بعضٍ أو على جُزءٍ من كُتَّاب هذا العصر، أنَّهم إنَّما يغرقون في ذاتيتهم، وإنَّما يركنون إلى ماضٍ تليد؛ ذاك الماضي المُشوِّه للحقيقةِ أو للواقعيَّةِ التاَّريخيَّةِ، إذ تلتبسُ عليهم الصورُ والأزمنةُ وحتَّى تعدُّد الرِّوايات التاريخيَّة، وما يشوبُها في تشويهِ لحقائق تاريخيَّةٍ معيَّنة، أو لغاياتٍ مشبوهة بذاتها، بما يشي بتلازم علاقة الأدب وفاعليَّةِ الأحداثِ التاريخيَّةِ عبر التَّاريخ.
خير مِثال ما يُستدلُّ به، الكاتبُ والشاعر والناقد خورخي لويس بورخيس، المولود في الأرجنتين، والَّذي يُعدُّ أحد أبرز كُتَّاب القرن العشرين، إذ اتَّضح في دراسات أكاديميَّة _ جامعيَّة عدَّة، لباحثين في مجالات الأدب والنقد والتأريخ، أنَّ بورخيس قدَّم صورةً غير صحيحةٍ عن الشخصيَّةِ العربيَّة المُناضلة، وفي كثيرٍ من جوانِبها، ذلك تِبعًا لِما كان يختارُهُ من أحداثٍ تاريخيَّة، أو في ما كان يختلِقُهُ من قّصصٍ تتضمّن شخصيَّاتٍ عربية.
ومن المُتعارف عليه أنَّ بورخيس قد استلهم من قَصصِ " ألف ليلة وليلة " – الذي تأثَّر بها كثيرًا في الطريقة والأسلوبِ الكتابيّ السَّرديّ _ ومن خلال رواية (رمل الماية)، الأسطورة والطُرفة في الأسطورة التي وردت في فتح الأندلس، مُستخدمًا إيَّاها في عرضِ أفكارِهِ عن المرأة والعَالم؛ وقيل أيضاً، إنه كان يعرِضُ ما يُحقِّق أهدافَه الأيديولوجيَّة. بمعنى أنَّه تعمَّد تقديم صورةٍ مهزوزةٍ للعربيّ في أدبِه، في ضوء فهمه الخاص للتاريخ العربي، دونما أي فَهم ٍلحضارة العربِ وعيشهِم وصيرورةِ حياتِهم وكفاحهِم وتاريخهم وتضحياتِهم.
بناءً لما تقدَّم، ومن خِلال التبحُّرِ في بنائيَّة تشكُّل الجوهر الإنساني في روايةِ "عين الدم"، تتمظهرُ الشخصيَّةُ الروائيَّة كي تُعبِّر عن أحاسيسها وكيانها الوجوديّ وظروفها وملل روحها، كما على الكاتب نفسِهِ أن يستعرضَ ظروفَ نموِّها وتفاعُلِهَا من خلالِ سلوكيَّاتِها ومظهرِها وخصائِصها ومجموع قِيمها الثقافيَّةِ أو الفكريَّةِ، أو تلك الاجتماعيَّة أو النفسيَّةِ أو التربويَّةِ، أو السياسيَّةِ أو الاقتصادية أو العقائديَّةِ أو الأيديولوجيَّةِ المختلفةِ والمتنوِّعة، ومدى ارتباطِها بواقِعِها المعيوش أو الواقع المُتخيّل؛ ناهيك عن مدى تفاعُلِها في ذهن المُتلقّي، وفاعليةِ تأثيرها في تكوينِ البُنية المجتمعيَّة والوعي الجمعي.  
فهل تمكَّن الكُتَّابُ من الوصولِ إلى الجوهرِ الإنسانيّ في العملِ الفنِّي؟ ههُنا يُوصِّف النَّاقِدُ الأدبيُّ الأستاذ الدكتور وجيه فانوس مسألة "الوصول إلى الجوهر الإنساني" ، إذ يقول: "إنَّ الإنسانَ موجودٌ في كُلِّ واحدٍ من النَّاس، لكنَّ الصعوبةَ هي في وصول إنسانِ كُلِّ فردٍ إلى الآخر. وصعوبة العمل الفنيِّ الحقيقيَّة، هي في قُدرةِ الفنَّانِ على توصيلِ إنسانِهِ إلى الآخرين، وقُدرة استقبالِ إنسانِ الآخرين في ذاتِه". 
مُتابعاً: "الحزنُ، كما الفرح، موجودان في كُلِّ إنسان مهما اختلفت سُبُل التعبير عنهما باختلاف البيئةِ الزَّمانيَّةِ والمكانيَّةِ. فالإنسانُ في أعمقِ أعماقِ وجودِهِ، واحدٌ في أحاسيسهِ، واحدٌ في تفاعُلاتِهِ؛ لكنَّ المُشكلة تكمُنُ في مُستوياتِ التعبير عن هذا الإحساس. وهنا تبدأ لُعبة الفنِّي".
ويضيف الدكتور وجيه مُتسائلًا: "لكن هل كُلُّ إنسانٍ قادر على الوصول إلى هذا العُمق؛ وهو عمق سحيقٌ وسحيقٌ جدًا؟ إذ لا بُدَّ من جُهدٍ للوصول إلى هذا العُمق؛ ولا بُدَّ، مع الجُهد، من مقدرةٍ شخصيَّةٍ تقومُ على حساسيَّةٍ وجدانيَّةٍ وطاقةٍ عقليَّةٍ معينتين، ولا بُدَّ، مع ذلك، من مقدرةٍ تعبيريَّةٍ مُميَّزة".
بناءً عليه، تكونُ الغايةُ من كتابة الأدب (النثريّ منهُ والشعري) في الدخولِ إلى رحاب وجدانيَّةِ الذَّاتِ ونفسيَّة الشخصيَّات، ودراسةِ صورة شخصيَّات العمل الرِّوائي والبطل، وإشكاليَّة حضورها وفِعل ارتباطها شكليًا ومضمونيًا مع محيطها ووظيفتها، انطلاقًا من بُعدها الاجتماعيّ أو الدّينيّ أو السياسيّ أو الأيديولوجي الَّذي يتبنّاه الرِّوائي، إضافة إلى رصدِ تحوُّلات تلك الشخصيَّات ورغباتِها وانفعالاتِها وصراعاتِها بين سكونِها وحركيتها، بين العاطِفةِ والفِكرِ، وبين العقلِ والخيالِ، ومن خلال مُعايشتِها مع الأحداثِ من تسارُعٍ أو تباطؤ، وتأثيرِها في تكوين البُنيةِ الفكريَّةِ المُجتمعيَّةِ أي الوعي الكُلِّي، إلى الالماحيّةِ للكشفِ عن الرِّسالةِ الفكريَّة أو السياسيَّة، وتلك القيم الجماليَّة الكامِنةِ في النصِّ الرِّوائي.
"فلو كانت الكتابةُ الأدبيَّةُ مجرّد مجالٍ لتقديمِ فعلٍ جماليٍّ ظاهريّ، لكان على الأديبِ أن يلجأ إلى زَخرفات اللفظِ والمعنى، فيُبهرُ المُتلقِّي لكتابتهِ بِمَا في هذه الكتابةُ من تزاويق شكليَّةٍ ومضمونيَّةٍ". 
ولا بُدَّ إذاً من أن تنفتح الروايةُ على الدِّراساتِ النفسيَّةِ والسيكولوجيَّةِ والاجتماعيَّةِ والتاريخيَّة، فتراها تقدِّم صورةً مثاليَة عن مُجتمعاتٍ خاليةٍ من أيّ عيوبٍ أو مظاهر غير حضاريَّة في هذه المجتمعات، من مثل العُنصريَّةِ أو التعصُّبِ أو الفسادِ أو التوريثِ السياسيّ أو الفساد الأخلاقيّ أو النعراتِ التعصبية في مشهدياتٍ تتابُعيَّةٍ. ولكنِّها قد تُقدِّم، في المقلب الآخر صورةً غير نموذجيَّةٍ عن المُجتمعاتِ، والقاضية بمواجهةِ الواقعِ الاجتماعيِّ والسِّياسيّ والدِّينيّ داخل أيِّ المجتمع، فإذ بالرِّوايةِ تحفِرُ عميقاً في صورِهِ وتشكُّلاتِهِ وتستعرضُ انعكاسها سلباً على طبيعةِ الحياة، وقد تستثيرُ حفيظةَ البعض، كما قد تُثير حساسيَّةً بين فِئات المُجتمع الواحد، مؤجِّجةً الحوارات وطارحةً المخبوءِ من القضايا المكبوتة أو المسكوتِ عنها، مُستهدفةً في بُنائيَّة مُعيَّنةِ أو في قصديَّةٍ استراتيجيَّةٍ علميّةٍ وفنيَّةٍ ما، تشخيصَ الحياة الاجتماعيّة وتعريةِ واقعها والكشفِ عن أمراضهِا وفِعل تأثيرها السلبي إنسانيَّاً وحضاريّاً وضرورة معالجة آثارها المُدمَّرة.
ومن الواقع الموسوم هذا، يرسمُ الكاتب كامل توفيق أبوعلي ههنا، شخصيَّات روايته، والَّتي تشكِّلُ مستوياتُ التعبير في النص عن أحاسيسها وهُويَّتها الذَّاتية والمُجتمعيَّة، فيتحقَّق بذا وجودُها من خلال الحاضر أو الماضي الذي تحياه، على اعتبار أنَّ النفسَ الإنسانية مرتبطةٌ باستمراريَّةِ وحركيَّة الزَّمن والتاريخ.  
وتُركِّز قراءتي النقديَّة "هُويَّة الموحَّد بين فاعليَّة الوجود الإنساني وصقيع الحرب / قراءة نقدية لرواية "عين الدَّم"؛ حُبّ في زمن معركة دروز عين داره 1711 للميلاد، على تشكُّلات ذات الشخصيَّات، "مُعتمدةً في الوقت ذاته على المفاهيم والقيم المجتمعيَّة والتركيبةِ المُجتمعيَّةِ التي شكّلت جميعها من شخصيات "عين الدم" قضيةً مُثيرةً للاهتمام"؛ فهناك "بجانب عين الدم، تكدَّست فوق الأرض أعداد القتلى. تلك العين التي لطالما امتزجتِ بعرَقِ الفلاَّحين، والعطشى من المَّارين، لتروي الأرض، بدَّلت غايتها بعد معركةٍ هوجاء"؛ تقول الرواية.
ويتلمَّسُ المُتلقِّي – القارئ القلقَ المُنبعثَ في صوتِ الرَّواي في "عين الدم" : " ليس من السهل أن نحيا، كما ليس من السهل أن نعرف كيف نحيا"، فالقلقُ يؤطِّرُ السَّردَ الحِكائيّ، فـ " أيُّ حياة سنحياها نحن الغلابة، حياةً موسومة بالنقص والحرمان؟ ويكون الإِقرارُ بالعجزِ عن الإتيانِ بأيِّ تغيير فعلي، واقعًا معيوشًا: "سأقول للتاريخ إنَّنا لم نكن يومًا كما حلمت بنا وإن حاولنا، وللعقيدة إنَّنا لم نعد حُكماء بما يكفي. إنَّنا عجزنا عن اتباعِ الحضارةِ الإنسانيَّةِ الَّتي وجدناها منذ الأزل". ".. نتصارعُ مع سلطةٍ جائرة، على جاهٍ مجبولٍ بالقهرِ، وعلى مال زائف"؛ فيكون التسليم النهائي: لقد "عجزنا".  
كما تستقرئ "عين الدم" تشظِّي جوارح الحبيبين بين الواقعِ الحياتيّ وقهر الحروب؛ إذ لا مناص من أنَّ الحب، كما الحياة والموت، كما الحزن أو الفرح، موجودٌ في كلِّ إنسانٍ، مهما اختلفت سُبلُ التعبير عنها باختلاف البيئة والمكان والزمان. فالتجربةُ الإنسانيَّةُ الَّتي تسعى "عين الدم" إلى خطِّها، وإبراز مُعاناتها وصراعاتها تتجلَّى بوضوحٍ من خلال مُعاناة المحبوب _ الصوت الرَّاوي _ إذ يُبرز جوانب من تعاستِهِ وآلامه البشريَّة الواقعيَّة، ومُعاناته الوجوديَّةِ ورومانسيَّته المُتشظِّية بين استرجاعِهِ لأحداثٍ ماضوية للحُب وبين انسلاخِهِ عن محبوبته بالقوَّة. فنسمعُ صوت الرَّاوي مُصوِّرًا ذكرياته والمشهديَّة المكانيَّة _ دير القمر _ ومعاناته العشقيَّة: "في أقصى أطراف الدير تقع دارُها، للجهةِ السُفلى حيث الوادي، تُحيطها سبعُ أشجارِ حورٍ، كانت إحدى عشرةَ شجرةً منذ سنوات. تلك الدار التي أهداها إيَّاها والدها يوم زفافها، فبقدرِ ما أحببتُ دارَهَا، بقدرِ ما كرهته بعد ذلك اليوم التعس الَّذي حطَّم ما في داخلي، وسلخني عنها عنوةً.. ". 
ويستعيد الرَّاوي ذكرى حبيبته في كُلِّ أرجاء "عين الدم"، وهي المُقيمة فيه وهو المُقيم فيها، وقد أدرك أنَّ طبول الحرب قد قُرِعت بالفعل، إذ يقرِّر العودة إلى موطئ الحبيبة، في "دير القمر حيثُ أنتِ، فمشاعري تجتاحُ كياني، تتخبَّطُ فيها عذاباتي، ما بين سعادتي للقياها واشتياقي لها، وبين الأمر المرير، بالكارثة التي ستحلُّ على الجميع".  
بينما لا يغيب أبداً واقع القهر والحروب المُتكرِّرة عن بال الراوي "البطل"، حيث لا هناءة عيشٍ ولا تحقيقًا لهدف أو رؤى لمُستقبل. فـ "ما أتعس فخر الدين الأمير المعني الأول حين آزر سليم السلطان في معركتِهِ ضدَّ مماليك أرض الكنانة". وفي خضمِّ الصراعاتِ القبليَّةِ والجاهليَّةِ، والعدنانيَّةِ والقحطانيَّة، وصراعات الجيوش العثمانية غازية أرض الشام وأرض جبل لبنان، وصراعات جهل العصبيات في عقول "أولئك المهووسين بالجهل"، والحروب المتأججة دومًا من معركة إلى معركة ومن مرج دابق إلى معركة مرج بعقلين ومعركة عين داره وسواها الكثير...، ناهيك عن دفع الضرائب الميريَّة المفروضة قهرًا بعدما أُنيطت بالأمير بشير جمع هذه الضرائب، باسطًا سلطتَهُ وتفرُّده بالحُكم "وهذا ما لم يرقَ لأمراء الدروز من الحزب اليمني، فأخذوا يكيدونَ لهُ بُغية إزاحته عن الحُكم، ليدخُل جبل لبنان مرحلة مُظلمة"، وعفنُ السلطة، "حيثما يتراءى لنا في قُرانا ومُدننا خبزُ الفقراء معجونًا بالعرق والدم، والاغتيالات".
هي المأساة ذاتها تتكرَّر عند كُلِ أصيل، لقد "مات وحيد الشيخ القاضي، و"ما ضرّه لو بات ليلته في خلوة بعقلين؟" هل كان الموتُ سيُدركُهُ غدرًا، في خضمِّ صراعات دمويَّة لم تنتهِ على الرغم من "أخوَّة العقيدة، وشراكة الهُويَّة، و وحدة التاريخ، وأيُّ تاريخ؟!". فمن تبعيَّةٍ إلى تبعيَّة، ونحن نُلملِمُ جراحاتنا ونُكافئ بنصيبنا من الموتِ وأجسادنُا المُعفَّرة بالدّمِ والغصَّات، بينما الأراملُ والأيتام والثكالى مفجوعي الأحلام، المغدورين ببطولاتهم وإنسانيتهم، يُشيِّعون شُهداءهم بالزغاريد. شهداءُ البيت التوحيدي الواحد. فـ " لم يختر دروز الجبل مناطقهم، إلاَّ هربًا، طالبين العُزلة... ولم يرضوا لأنفسهم التبعيَّة. طُوردوا، حُورِبوا، انتصروا وانهزموا، قُتِلوا وقَتلوا...". "رُحماكَ ربّي، أيحقُّ لمعشرِ الإخوان أن يغدروا بعضهم ببعض؟! أليس من المُحرَّماتِ قتلُ الأخ لأخيه؟!". فـ " كم عانوا من مشقَّات خارجيَّة كانت كارثيَّةً عليهم، مشقَّاتٌ فاطميَّةٌ مُكتسبةٌ، تفنَّن فيها المماليكُ، واليوم يتلذّذُ العثمانيون بها"؛ يسرد الصوت، مُتابِعاً: "نحن التُعساء من بقينا على قيدِ الحياة، نُقاسي الفظائع، ونُداوي الجراح".
وتُعلنُ "عين الدم" عن واقع تشظي قلبي المحبوبين في عشقهما، "أليس الحُبُّ هو تعبيرٌ عن التقاء وانصهار روحي لندنو مع مَن نُحب من فردوس السعادة؟".
ويُطالع الحبيب _ حيثما وجَّه وجهَه _ طيف محبوبته، فيُعايش قدرهُ بالانسلاخ عنها، ويُعاين ألمه، إذ ما تمخَّضت جراحاتُه وتنازعتهُ نوازعُهُ النفسيَّة كي يرتمي بين أحضانِ ذكرياته المغدورةِ ومشاعرهِ المُضطربةِ وجوارحِهِ المُتفجِّعة، وبين شعورهِ بضآلتهِ أو انغماسِه في تحقيقِ جُزءٍ من طموحاته أو من ذاتِه، وأحيانًا في سعيه الدؤوب إلى تحقيق الذَّات المُجتمعيَّة. الذَّات المجتمعيَّة الواعيةُ، الَّتي يُؤمل منها أن تنتفضَ يومًا ما على واقعها المأساوي والمتأزم وجوديًا، وتخوض تجاربها الجديدة وانتماءاتها الفكريَّة أو السياسيَّة أو الأيديولوجيَّة أو العقائديَّة من دون إلغاء أو تكفير للآخر أو للذات، عبر تغيير مسارها الحياتي المُتَّجه منذ فجر التاريخ نحو الهلاك والدمار وأحيانًا الضياع، إلى منحى متمايز حضاريًا .  
وفي صورة متزامنة مع ذي قبل، يصوّر الراوي حالته بعد انتهاء المعركة الحربيَّة، محدّثًا الحبيبة: "ألاَ ترين معي، يا من أتعبني فراقكِ، أنَّ هدف الحياة هو أن يجد الإنسانُ توأم روحه يسكُن معها ما تبقى له أنفاس؟". 
ويُطالِعُنا مونولوغُهُ النَّفسيِّ المُتأزِّم حين يؤرقه تبدُّد حُبِّها، فــ "كيف للحُبِّ أن يموت؟ ذراعها التي تأبطت ذراعي.. لهفتها لتراني، وشوقها العامر بالحُب". فهو العاشق المأسور بحبِّه اليافع لامرأة _ أخضعتها التقاليد والعادات رغمًا عنها لـ "زوج" لا ترتضيه في حياتها_ تُداهمه ذكرى رسالتها الصغيرة الَّتي تركتها له منذ عشر سنين: "أي حبيبي.. قلبي زورق صغير وقلبُك خليج ثائر لا أقوى أن أرسو فيه، ليتك تُدرِك ما أقاسيه لكنِّي بالتأكيد أُحبُّكَ من أعماقِ قلبي".  
يجيء التصريح واضحًا وحقيقيًا بما يعتمل في شغاف قلب حبيبته ووجدانها من صدق في المشاعر، وهو العاشقُ المُنغمس في بحر عِشقه الأزلي، لم تقوَ على الارتحال إليه ولا الارتماءِ في أحضانه. وتبدو حبيبته الملهوفة وكأنَّما تقفُ على مفترق ما بين الانتظار أو الارتحال، وهي المُشلَّعة بين حُبِّه المعشعش في ثناياها الدفينة، وبما تُقاسيه من وجع واقعيّ حياتي.
بيد أنَّ الرَّاوي، الَّذي يسترجِعُ ذكرياته حاملًا رسالتها معه أينما حلَّ وارتحل، تراهُ يشرّعُ أبوابَ أوجاعِهِ على المجهولِ، كيف لا ورسالتها له بدت مُستفزَّةً _ كما عبَّر، بعد أنْ رحلَت عنهُ وأوقعتْهُ في صراعٍ داخليٍّ، ما بين فَكَيّ إعادةِ قراءتِهِ للرِّسالةِ وتجاهُلَها القاتل". يسرد متوهمًا السعادة: "غادرتني فسلختني عن نفسي، وعن أمسي الَّذي عِشتُهُ بسعادةٍ"؛ "لا أخشى الوحدةَ بقدرِ ما أخشى فَقدَها مرَّةً أُخرى، يوجعني الفراغ العاطفي،.."، فيُمسي غارقًا بين أضلُع ثلاثٍ وعشرين كلمةً _(تُشكِّل في مُجملها نصّ الرسالة) والدخولِ في متاهةِ الوجدان والخطيئة.
يتبدَّى لنا أنَّ الرَّاوي _ البطل الحبيب يتلذُّذُ في تغريب ذاتِهِ عن المُحيطين به، "مؤمن بتفرُّدي" تسمعهُ يقول، غير أنَّه بات طريد أحوالٍ لا يرتضيها بعد أن ذاقَ أهوال الحربِ وفواجعها، ومن خلالِ صيغة تساؤلِ العارف يُعاتب نفسه: "ويح نفسي تقودني طوعاً فأسير إليكِ. أهكذا ينقادُ العُشَّاق؟!". 
هي خيبةُ العُشَّاقِ تشرئِّبُ منتصبةً أمامَهُ. هي صورةُ حُبِّه الفتي العذب والطاهر البريء، يهرِبُ إليها كُلَّما استطاع كي يُزيح عن كاهِلهِ صور الحربِ وهواجسه السيِّئة وأرقهِ وحياته بتناقضاتها وشغفها وتعلُّقها وحقدها وعجزها وقيودها.
لقد شكَّلت رواية "عين الدم" في صيرورتها الحكائيَّة والسرد، نشاطًا إنسانيًا حرًا، مرتبطًا بمسؤوليَّةٍ و هَمِّ اجتماعيين، إذ يؤدِّي الرِّاوي فيها دوراً حيويًا وأساسيًا في تسطير انفعالاته و تيهه، على نحو مُبين، صادقٍ وشفَّاف، تُلاطمهُ رياحُ التغريب عن محيطه والمكاشفة التوحيديَّة عبر ارتباطه بالجماعة الموحِّدة وبانتظام انضمامه إليها ومُشاركته وإيَّاها مجالس الذِكر والتقشُّف والانعتاق. فهو الذي يستمدُّ حضورَه من الجماعة، يتراءى لنا وهو الموغل في الانغماس بجوَّانيته المُضطربة وذاته العاشقة إلى حدِّ القلق فالجنون، ويتأرجحُ بين فتورِ العواطف والغضب والحنين "أنتِ حُلمي في صحوتي"...، ولتأتي الأحداثُ التاريخيَّة ومشهديَّاتُ صور المعارك متلازمة مع واقعهِ النفسيِّ والوجوديَّ المتأزمين، إذ لا حقوق مجتمعيَّة ولا حرّيَّات شخصيَّة. "لا أُحبُّ الحروب، ولم تروعني تلك المعارك، ما روعني هو وضع الَّذين شاركوا فيها، فمنعتُ نفسي من المُشاركة مُكتفيًا بمُشاهدتها".
ها هنا، تسطعُ "عين الدم" كرواية للغصة والدَّمار المُجتمعيِّ والنَّفسي: "أيَّتها الأشواك الوفية، يا عِشق أقدامي المؤلِم! كم عشقتُ هذا الألم ... وأنا أسيرُ إليك ... فالحُبُّ يصنع السلام كما يشنُّ الحروب، يُبقينا مُعلَّقين ما بينهما". 
"عين الدم" هي اللآ آفاق في مواجهةِ التخريب والواقع المُتفجِّر بالأزمات السياسيَّة والوجوديَّة المتوالية عبر العصور، وهي الَّتي تستمدُّ وجودها الفاعل والمؤثِّر في المُتلقِّي من السياق الدِّرامي _ الرِّوائي.
إذ ذاك تُقدِّم صورة عن تشوُّهات النفس البشريَّة، مُشيرة إلى التخلُّف في اتِّباع المظاهرِ والعاداتِ والتقاليد ومبادئ الأيديولوجيا، زمنذاك، داخل بعضِ المُجتمعات المُتسلِّحة بالتسلُّط والعنصريَّة والفساد الاجتماعيّ، واستحالة اجتماع حُب عذري صافٍ، في زمنِ الخوف على الوجود والحُضور الفاعل ونزاعات الحروب؛ هذا ناهيك عن الشحناتِ الانفعاليَّةِ وعُمق الخيبةِ الإنسانيَّة، بما يشي بضُعفِ الوعي أو عدم النُضج، أو حتَّى هو انعدام للفاعليَّةِ الفرديَّة خارج الأُطر الجمعي حيث لا بطولات؛ "حين يُدرِكُ المرءُ أنَّ القتلَ مطلوب، ومفروضٌ عليه دون تفكير بعقاب أو حساب فإنَّه يقتلُ دون رحمة... وكأنَّهُ بالقتل تكتمل رجولته"، فـ "لو استطعتُ أن ألهو بالزمان كما يلهو الأطفال بضحكاتهم، لرفعتُ شارة النَّصر.. على هزيمة أنفسنا.." ، في ليل يُمارس شحوب عتمته وانبلاج الصُبح على الرَّحى وفواجع مواكبِ الرحيل.