بين انتخاب مكارثي والرئيس اللبناني

08 كانون الثاني 2023 21:26:32

بعد 15 جلسة انتخب كيفين مكارثي رئيساً للكونغرس الأميركي. كان النقاش يدور حول الخلافات العاصفة داخل الحزب الجمهوري الذي رشح مكارثي، لكن عدداً من أعضائه رفض. وقرأنا الكثير من التحليلات والتصريحات التي تناولت دور الرئيس السابق دونالد ترامب وقيادته الفعلية اقتحام مبنى الكابيتول في سابقة تاريخية في البلاد "المتحضّرة"، "الديموقراطية" و"معمّمة مشاريع الديموقراطية" في العالم، والتي تشهد كل أشكال التطرف والإرهاب الداخلي والعنصرية - باعتراف قادتها من الحزبين - وتحمي دولة الإغتصاب والإرهاب المنظم في منطقتنا اسرائيل.

وانتخاب مكارثي جاء كما هو معلوم بعد سيطرة الجمهوريين على الكونغرس في الانتخابات النصفية الأخيرة دون تمكنهم من الفوز في مجلس الشيوخ كما كانوا يراهنون في أميركا وبعض دول العالم وخصوصاً في عدد من دولنا العربية واسرائيل. وبالتالي النقاش كان ولا يزال يتركز على كيفية إخراج أميركا من أزماتها الداخلية وتنمية اقتصادها وتعزيز موقفها في مواجهة المنافس العالمي الأول الصين، وكسر روسيا، وضمان تفوقها الاستراتيجي العسكري، التقني، الجوي، الفضائي، البحري والبري في كل قارات العالم.

كل هذا لا مكان له في لبنان عند كثيرين. أسقطوا علينا في الأيام الأخيرة سلسلة من التصريحات وأغدقوا "بعبقريتهم"، و"موضوعيتهم"، وأغرقوا الإعلام في مستنقع غابة من التحليلات ركزت كلها على تمنّ "صادق"، "عفوي"، ينشد سقوط الوحي على النواب اللبنانيين لتبقى جلسات مجلس النواب مفتوحة حتى انتخاب رئيس استناداً إلى "الدرس الأميركي" الجديد!!

أكبر الخطايا المدمّرة في إدارة القضايا وتوجيه الرأي العام : تضليل الذات لتضليله. تحليلات التمنيات . تبسيط الأمور. التذاكي. التشاطر. عدم التفكير في ما قيل. وبالتالي ما يجب أن يقال . التعميم . التخصيص . قلة الدراية والمعرفة . الاستنساب . الهروب من الحقائق والوقائع . لا تجوز المقارنة بين ما يجري عندنا وما جرى في أميركا .

هاتوا : نظاماً سياسياً ديموقراطياً قائماً على المساواة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص لا تحصر فيه الوزارات والإدارات بمذاهب أو طوائف محدّدة مصنفة سلفاً ب سيادية ومتهم غيرها بأنه غير سيادي وخلافات تدبّ في كل موقع إذا نقل موظف فئة رابعة من مكان الى آخر وتعلو الصيحات دفاعاً عن كرامة الطائفة والمذهب. يا غيرة الدين.

هاتوا: دولة قانون وعدالة ومؤسسات تطوّر ذاتها ، وقوانين انتخابية عادلة يكون فيها التنافس بين حزبين أو أكثر وتكون الممارسة داخل الأحزاب ديموقراطية ويخرج فيها نواب يعبّرون عن الخلافات في وجهات النظر حتى في انتخاب مرشح أي حزب من الأحزاب كما حصل مع مكارثي.

هاتوا: رجال دولة لا رجال سلطة.

هاتوا: كتاب تاريخ واحداً وكتاب تنشئة وطنية واحداً فيحدّد اللبنانيون جميعاً العدو والصديق.

هاتوا: دولة تكون فيها المساءلة أساسية في إدارة الشأن العام وتستند الى قضاء مستقل.

هاتوا: دولة يكون فيها كهرباء وماء وكرامة إنسان مصانة ولا يذلّ على أبواب المستشفيات. النقاش بل الصراع في الخارج هو على أساس برامج واليوم بالذات يبدو همّ تحفيض الفاتورة الاجتماعية في دول كثيرة وفي أميركا بالذات متصدراً هذه البرامج لتخفيف الأعباء عن الناس الذين يعبّرون عن موافقتهم أو رفضهم في صناديق الاقتراع وفي حرية التظاهر وفي عمل نقابي سليم.

هاتوا: دولة لا يدمّر فيها التعليم الجامعي والأساسي والثانوي وترتفع فاتورته الى أرقام خيالية.

هاتوا: فرص عمل وإنتاج وسياسات واضحة.

هاتوا: دستوراً سليماً وطبّقوه بسلاسة – وهذا ما لم يحصل مع الطائف الذي هو مدخل الى حل ولكن المدخل الأساسي والمداخل الفرعية سدّت كلها بسوء الممارسة والإدارة – دستوراً لا تكبّله أعراف وبدع وتقاليد واختراعات موسمية غبّ الطلب من مثل الرئيس القوي في طائفته، ولا مكان لسائر الطوائف في سياق حسابات شخصية أو قصيرة النظر!!

لقد كنا سابقاً في نظام امتيازات طائفية قاوم كل محاولات الدعوة الى الشراكة. أدرك المعلم الشهيد كمال جنبلاط خطره وضرورة تطويره فأسس حزبه ، وخاض نضالات وطنية عابرة للمناطق والطوائف بجدية وكان حاضراً على الأرض في كل لبنان متابعاً هموم وشؤون الناس. طرح برنامجاً وطنياً ارتقى بالتعاون مع الأحزاب الوطنية ليصبح أساس عمل الحركة الوطنية اللبنانية – البرنامج المرحلي للاصلاح السياسي – فقتلوه وبدأ بعد اغتياله مشروع تفريخ التنظيمات والمؤسسات الطائفية والمذهبية والفئوية داخل المذاهب ليحتدم الصراع بينها وتعمّ الفوضى ونبتعد عن فكرة الدولة الجامعة. هذا واقع لبنان اليوم وهذه حسابات كثيرين من الذين دعوا الى الإقتداء بانتخاب مكارثي في الكونغرس ليقوم " نوابنا " بعمل مماثل في مجلسنا النيابي!!

هذا نوع من الشعبوية والشعوذة السياسية في الواقع، والتمني والخيال في أحس الأحوال ولا علاقة له بالواقع السياسي، مع التذكير بضرورة معرفة تاريخ البلد وجغرافيته السياسية والتجارب التي مررنا بها لكن للأسف وكما أقول دائماً: لبنان يعلّم. اللبنانيون لا يتعلّمون. بالتأكيد لا أعمّم ومن تعلّم أو يتعلّم أو يكون خبيراً في قيادته السياسية لا يرتاحون لخبرته فكيف ونحن أمام موجات الحقد الطائفي والمذهبي ودعوات التقسيم المعلنة ولو أخذت مسمّيات مختلفة.

بمعرفتي المتواضعة لما يجري في البلد قلة قليلة صادقة في رغبتها بانتخاب رئيس الآن. غالبية تطالب بالاقتداء بانتخاب مكارثي وتنتظر تعليمات الخارج تأكيداً لسيادة لبنان ولببنة استحقاقه الرئاسي.

قبل الدعوة الى التشبّه بانتخاب مكارثي ليخرج كثيرون من "كنف الأسطورة"، "وسطوة الخرافة"، "والشعوذة السياسية"، كما كان يقول كمال جنبلاط وليُخرج آخرون عقولهم من مغاور وكهوف الجهل...