لا يكاد زمن الأعياد ينتهي في لبنان، مع كلّ ازدحامه وصخبه ولقاءاته وتجمّعاته، حتّى يعودَ الحديث عن الأوبئة والأمراض المعدية يتردّد إلى الآذان، فتتحوّل المواضيع المرتبطة بكورونا والكوليرا والإنفلوانزا إلى أحاديث الساعة. في الأعوام الماضية، عانى سُكّان العالم من تداعيات وباء كورونا الّذي طغى على ما عداه من أزماتٍ معيشيّة وسياسيّة واقتصاديّة وصحّيّة، وها هي اليوم العيون شاخصة في لبنان نحو مرحلةٍ جديدةٍ من الأوبئة والالتهابات.
فما إن يتنفّسُ لبنان ملء رئتَيه بعد مرور سنواتٍ أنهكته على الصّعد كافة، محاولاً التقاط أنفاسه بعد حربٍ على مختلف الجبهات، حتّى يصطدم من جديد بموجة من الفيروسات والالتهابات وطفرة جديدة من وباء كورونا الّذي ما إن ينخفض عدّاد إصاباته، حتّى يعود ويطرق باب اللبنانيّ من جديد، ويفرض نفسه "ضيفاً ثقيلاً" عليه.
وتفنيداً لما جاء سابقاً في كلام وزير الصحّة العامّة في حكومة تصريف الأعمال فراس الأبيض عن أنّ نسبة إيجابيّة الفحوص ارتفعت إلى 12,7% بعدما كانت تراوح في بداية شهر كانون الأول الماضي بين 5,5% و6%، طمأن رئيس لجنة الصحّة النيابيّة النّائب بلال عبدالله في حديثٍ لموقع "نداء الوطن" الإلكترونيّ، إلى أنّ "الكوليرا تحت السيطرة، إنّما ارتفعت أعداد الإصابات بكورونا بعد الأعياد، وكنّا نتوّقع هذه الزّيادة، وذلكَ بسبب قدوم المغتربين إلى لبنان، فضلاً عن الاختلاط والسّهرات والاحتفالات، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ ومُتوقَّع بعد رأس السّنة، ولكنّ الأرقام لا تزال مقبولةً".
أمّا عن طبيعة الأمراض المعدية الّتي بدأت تغزو لبنان في الفترة الماضية، فلفت عبدالله إلى أنّ "انتشار الانفلوانزا أمرٌ طبيعيّ ويتكرّر في كلّ سنة وتحديداً في فصل الشتاء، وقد مرّت العدوى في الشهرَين الماضيَين، بحسب وزارة الصحّة، ضمن التوقّعات، وكانت أرقامُ الإصابات اعتياديّة"، مؤكداً في المقابل أنّ "فيروس الـ H1N1 أتى قاسياً أحياناً على مَن أُصيب به".
وعن احتمال اتّخاذ تدابير وإجراءات على مستوى المؤسّسات التربويّة، خصوصاً أنّ الانفلونزا اجتاحت المدارس قبل الأعياد، مع تسجيل إصابات "بالجملة" وإغلاق عددٍ من الصّفوف وظهور عوارض قاسية ومعدية على معظم المتعلّمين، وإدخال عدد منهم المستشفيات، أكّد رئيس لجنة الصّحّة لموقعنا أنّه "لن يتمَّ اتّخاذُ اجراءاتٍ بالمعنى الوطنيّ الكبير، إنّما المطلوب في هذه المرحلة، اتّباع الارشادات الوقائيّة والتدابير الذاتيّة. فالمريض يجبُ ألّا يذهبَ إلى المدارس أو إلى أماكن التجمّعات وعليه اتّخاذ الاحتياطات اللازمة".
أضاف: "وزارة الصحة والجهات المعنيّة تُتابع هذه الملفات، ولكن حتّى اللحظة، من الواضح ألّا توصية بتأجيلِ العودة إلى المدارس"، مطالباً بالتّخفيف من التّجمعات والاحتكاك بالآخرين والانتباه إلى الوقاية الشخصيّة"، منعاً لتزايد أعداد الإصابات في الفترة المقبلة.
وعن واقع الأوبئة اليوم في لبنان، ما أدّى إلى تفاقم الأوضاع وعودة الحديث عن الأمراض المعدية، لفت الاختصاصيّ ورئيس قسم الأمراض الجرثوميّة والمعدية في مركز كليمنصو الطبيّ، الدّكتور ناجي عون، في حديثٍ إلى موقع "نداء الوطن" الإلكترونيّ، إلى أنّ "في لبنان انهياراً للبنى التحتيّة كافة، وهذه البنى التحتيّة ما هي إلا مُؤشّرات وعوامل تُساعد الواقع الصحّيّ أو تُعاكسه. ومن العوامل الّتي ساهمت في عودة ظهور هذه الأمراض، نقص التّطعيم الّذي شهدناه في السّنوات الثلاث أو الأربع الماضية ونقص التّوعية للوقاية من الأوبئة أو الالتهابات التي تُجسّد أمراضاً يُمكن الوقاية منها لتفادي حدوث حالات وفاة، إضافةً إلى أنّ التّوعية في هذا المجال شبه غائبة عند وزارة الصّحّة الّتي قلّما تتحرّك إلّا عند حدوث أي طارئ".
واعتبر أن الوقاية في هذا المجال، وفي علم الأوبئة، تبدأُ من تطعيم الأطفال والأشخاص الذين يُعانون من ضعف الجهاز المناعيّ، وتحديداً مَن هم فوق الأربعين عاماً ويُواجهون أمراضاً صحيّة أو حساسيّة أو يُعانون من أمراضٍ مُزمنة. ويجبُ الانتباه إلى أن تكونَ نسب الفيتامينات في الجسم مقبولةً وطبيعيّةً، وخصوصاً الفيتامين "دال" - Vitamin D، والحديد، لتعزيز المناعة، وهذه خطوةٌ فعّالة تُساهمُ في تخفيض عدد الإصابات وكذلك عدد الوفيات".
ولفت عون إلى أنّ هناك "التهاباتٍ تحرّكت من جديد، وهي موسميّة، مثل فيروس الانفلوانزا الذي ينقسم إلى قسمَين "A" و "B": القسم الأوّل (A) هو H1N1 وH3N2، وله لقاحاتٌ لم تُعطَ هذه السنة كما في كلّ عام، نظراً لكلفتها العالية التي تترتّب على الأشخاص، وتبعاً لأعداد اللقاحات المُنخفضة التي وصلت إلى لبنان في الفترة الماضية، إضافةً إلى عدم ارتداء الكمامات في المدارس والجامعات، ما أدّى إلى ظهور هذه الالتهابات".
وتابع: "خلال السّنوات الثلاث الماضية، شهدنا ظهور جائحة كورونا التي عانى منها كثيرون، وقد ظهرت من جديد التهابات لم تعُد موجودة في العالم، خصوصاً في المناطق الأوروبيّة والأميركيّة الّتي غالباً ما نُحاول أن نتشبَّه بها، ونذكرُ في هذا الإطار وباء الصفيرة "أ" والجدري والحصبة والكوليرا".
وعن المسؤوليّة المترتّبة على الجهات المعنيّة في فرملة عدد الإصابات ومنع تفشّي الفيروسات في المجتمع اللبنانيّ، قال عون إنّ "وزارتَي الصحّة والتربيّة تأخّرتا في إصدار التّعليمات والإرشادات، وهذا الأمر أدّى إلى ارتفاع عدد الالتهابات ودخول المستشفيات، إضافةً إلى أنّ هذا الواقع الصحيّ يُرتّب علينا مصاريف في ظلّ الضّائقة الماليّة التي نعيشها، إنّما هذا الامر سيُؤدّي إلى حالات وفاة، وحالات استشفاء إضافيّة، تزيد من المشاكل الوطنية".
أضاف: "لا شكّ أن وزارة الصّحّة تحرّكت على هذا الخطّ، إنما بعدما تفاقمت الحالات، وهنا يجب التوقفُ عند ضرورة التّوعية وتأمين اللقاحات اللازمة وتوفير العلاجات للمرضى والمصابين وتحسين البنى التحيّة والمجارير ومياه الصّرف الصحيّ وتكريرها وتعقيمها، منعاً لتزايد عدد الإصابات بالصفيرة "أ" الموجودة بشكلٍ أساسيّ في شمال لبنان، والكوليرا المتمركزة أيضاً شمالاً وفي المناطق التي تحتضن اللاجئين. وهنا تقع المسؤوليّة على عاتق وزارة الصحّة أو الوزارات المعنيّة".
وأشار الى ان وزارة الصحّة مسؤولةٌ عن طريق استشارة اختصاصيين، من علماء الأوبئة، الّذين هُم أطباء الالتهابات، وعبر استشارة الأطباء الّذين يعملون ضمن نطاق منظّمة الصحّة العالميّة (WHO)، فتُعطي الإرشادات المناسبة للوزارات الأخرى بهدف التحرّك. مثلاً، يُمكن لوزارة الصحة في هذا الإطار، أن تعطيَ الإرشادات اللازمة لتأمين الكهرباء التي هي مهمّة في عمليّة التّكرير والتعقيم ولمدّ البرّادات بالطاقة اللازمة، منعاً لوقوع إصابات بالصفيرة "أ" والتيفوئيد والكوليرا".
تقع إذاً مسؤوليّة الوقاية من هذه الفيروسات المنتشرة على عاتق المواطن اللبنانيّ الذي عليه اتباع الارشادات والتعليمات، في ظلّ شبه غياب للدولة. وكي لا تعودَ الأزمات والتحديات الصحية إلى الواجهة من جديد، على كلّ مواطن أن يكونَ مسؤولاً عن نفسه أولاً وعن مجتمعه ثانياً، حتى لا تكون سنة 2023 شبيهة بسابقاتها فيتكرر سيناريو عام 2020 بكلّ تحدياته وضوابطه وأزماته.