Advertise here

عام الصراعات والتحولات الكبرى

01 كانون الثاني 2023 16:56:54

على جانبي الحرب الروسية - الأوكرانية، تتراجع عوالم وتظهر أخرى، وتنبعث قوى جديدة من سبات طويل. ألمانيا تتسلح. واليابان تتسلح. وكوريا الشمالية تجري رقماً قياسياً من التجارب الصاروخية الباليستية، ومسيّراتها تبلغ سيول. 

ما كان محرماً منذ عقود سقط بالضربة الروسية لأوكرانيا. أوروبا اكتشفت دفاعاتها الضعيفة وقررت رفع موازناتها العسكرية. وقررت الانفطام عن موارد الطاقة الروسية حتى ولو أمضت شتاء مظلماً وبارداً، واستغنت عن بعض تقاليد الحياة اعتادتها عشرات السنين. قالها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمواطنيه "يجب أن تعلموا أن عهد الرفاهية انتهي".   

وكما أعادت الحربان العالميتان الأولى والثانية في القرن الماضي، تشكيل العالم، قوى جديدة صعدت وأخرى زالت، كذلك تفعل الحرب الروسية - الأوكرانية اليوم، التي هي كناية عن حرب عالمية تدور بالوكالة حتى الآن، ولا شيء يمنعها من أن تتحول صداماً مباشراً بين روسيا وأميركا والرقص على حافة الضربة النووية الأولى. 

مسؤولون روس وأميركيون وأوروبيون يلهجون أكثر في أحاديثهم عن "يوم القيامة"، كما لم يحدث من قبل ولا في ذروة الحرب الباردة. وما يجري يظهر أن أزمة الصواريخ الكوبية في الستينات، كانت لا شيء مقارنة بالخطر الماثل اليوم. ماذا لو سقط صاروخ روسي طائش على دولة من دول حلف شمال الأطلسي؟ ألن تكون أميركا مجبرة على الرد، وروسيا سترد على الرد الأميركي، ولن يبقى بعد ذلك من يكتب أو يروي ما حدث!!!

عام 2022 يعتبر الأقرب إلى عام 1991 عندما اهتزت التوازنات الدولية بتفكك الاتحاد السوفياتي وتربعت الولايات المتحدة على عرش نظام آحادي القطب في أحد أكبر التحولات الجيوسياسية في القرن العشرين. لو مضت الحرب الروسية - الأوكرانية وفق ما يشتهي الرئيس فلاديمير بوتين، لكان برز نظام دولي أكثر توازناً وبدأ التاريخ من جديد.     

ويطل عام 2023 على حرب غير مكتملة. روسيا لم تنتصر لكنها لم تهزم بالكامل. والمنتصر سيكتب التاريخ لمئة عام مقبلة. الولايات المتحدة تدافع عن آحاديتها أكثر من دفاعها عن أوكرانيا. التراجع في أوكرانيا يعني حتمية التراجع الأميركي في مناطق أخرى. والمحيطان الهادئ والهندي سيكونان ميدان الحرب المقبلة ضد الصين، القوة الحقيقية التي تخشاها الولايات المتحدة اقتصادياً أكثر من خشيتها عسكرياً. وأميركا تعزز شراكاتها الاقتصادية في آسيا أكثر من أحلافها العسكرية.   

والصين ترد بسلاح مماثل وتقيم شراكات اقتصادية "شاملة" مع دول الخليج العربي، منطقة النفوذ التقليدي للولايات المتحدة، وتعزز حضورها حيث تسنى لها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والتوغل الصيني في أفريقيا، أرغم أميركا على إعادة اكتشاف القارة السمراء، فقررت إنفاق عشرات مليارات الدولارات، لتطويق النفوذ الصيني والروسي هناك. وأفريقيا ممر استراتيجي للدول التائقة إلى التنافس بلا هوادة. وكلما زادت أهميتها، تصاعدت حروبها، وجمهورية الكونغو الديموقراطية شاهد على ذلك. والمواجهات بين حكومات دول الساحل الأفريقي الخمس والتنظيمات الجهادية، في بعدٍ من أبعادها اتخذت شكل الصراع على النفوذ بين روسيا وفرنسا. 

حرب باردة أميركية-صينية كادت تتحول إلى مواجهة ساخنة بسبب تايوان الصيف الماضي. القمة الأميركية - الصينية في منتجع بالي الإندونيسي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، سكبت ماء بارداً على الحماوة الكلامية غير المسبوقة بين واشنطن وبكين، لكنها لم تخفف من شراسة التنافس بين العملاقين الاقتصاديين.     

ومن خضم هذه الحروب الباردة والساخنة سينبلج فجر نظام عالمي جديد لا يعرف حتى الآن ماهيته وما هي التوزنات الدولية التي ستتحكم به. هل تبقى أميركا متربعة على عرش الآحادية العالمية أم ستشق الصين وروسيا في نهاية المطاف طريقهما لفرض عالم متعدد القطب؟    

كلها أسئلة برسم الميدان الأوكراني قبل كل شيء.

(*) أسعد عبود