ما اجتمع اثنان في لبنان، إلا وكان ثالثهما سؤالان: كم بقي من عمر الأزمة؟ وما العوائق التي تحول دون تطبيق الإصلاحات، التي يقَر معظمها بقوانين. وبالتالي، البدء بمحاسبة المتسببين بالإنهيار؟ الجواب الذي عادة ما يُربط باستحقاق منتظر، كانجاز الإنتخابات النيابية في الأمس، أو الإنتهاء من الشغور الرئاسي وتشكيل حكومة وتوقيع الإتفاق مع صندوق النقد الدولي في الغد... سرعان ما يثبت فشله. فمع بداية العام 2022 كان للبلد رئيس جمهورية، وحكومة، وبرلمان، ووقّع بالفعل اتفاقا مبدئياً مع صندوق النقد، مبنياً على خطة تعافٍ وطنية، ولم يتغير شيء! وهنا يقفز إلى حلبة النقاش "السؤال المذيل" (tag question): كيف يمكن أن نستمر؟
بالنظر إلى تجارب الدول المأزومة يظهر أمران بشكل واضح: الدولة لا تفلس و"تتبخر"، والحياة تستمر، حتى ولو وصلت مثلاً قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار إلى 35 مليون مليار (كوادريليون)، على غرار زيمبابوي. حيث تكلف عملية شراء 3 بيضات حوالى 100 مليار دولار زيمبابوي.
حكم اللصوص
إختيار أكثر الأمثلة تطرفاً عن إنهيار العملات، وما ينتج عنه من تضخم ومآس إجتماعية، لا يعني بالضرورة انسحابه على لبنان، إنما هو "جرس إنذار" لإظهار المدى الذي قد تبلغه الأزمات في حال الإستمرار باهمال الإصلاحات او رفضها بالمطلق. فمحافظة لبنان على استقرار إقتصادي نسبي، وصمود إجتماعي مصطنع مع دخول الأزمة عامها الرابع، ليس دليل صحة، بل العكس. فالإنهيار ساعد المنظومة على ترسيخ النظام "الكليبتوقراطي" في الحكم. أو ما يعني النظام الذي يستخدم فيه المسؤولون في الحكم السلطة السياسية للاستيلاء على ثروة شعوبهم، عن طريق الإختلاس (كما حصل مع أموال المودعين)، أو سرقة الأموال الحكومية (دين عام يفوق 100 مليار دولار، نصفها متأتٍ من قطاع الكهرباء). و"لكل من يظن أن التعبير مبالغ فيه، أنصحه بقراءة دراسة صادرة عن صندوق النقد الدولي، تحت عنوان "الفساد المؤسسي والدولة الكليبتوقراطية"، يقول الكاتب في الاقتصاد السياسي البروفيسور بيار خوري. فـ"المشكلة في لبنان ليست في "الفساد" بحد ذاته، فهذه الظاهرة لطالما كانت موجودة، ومن الصعب استئصالها كلياً حتى في أكثر المجتمعات تقدماً، إنما في "الفساد المؤسسي"؛ والفرق بينهما كبير. فعلى عكس التنفع المحدود سراً، الذي يمارسه بعض الموظفين على حساب المصلحة العامة، فان "الفساد المؤسسي" يكون مرعياً من النظام الذي يشغل الدولة". وانطلاقاً من هنا "لا يمكن لنا كمراقبين وباحثين وكتاب إلا أن نعترف أن الفساد في لبنان مرعي من المسؤولين. ولا يمكن تنفيذ أي مشروع، كائناً ما كان حجمه، أو إجراء أي معاملة من دون حفظ حصة المسؤول بشكل مباشر أو غير مباشر".
التصدي لأبسط الإصلاحات
لكي لا نعيد أمثلة الفساد والهدر في المجالس، والتعهدات، والسدود، وبواخر الطاقة، وفتح باب الإنتساب (الحشو الوظيفي) للقطاع العام قبل الانتخابات، والتلزيم من دون مناقصات... يكفي أن نشير الى ظاهرة التصدي لمكننة الدولة. إذ من أجل تحويل المعاملات من ورقية إلى إلكترونية، معزولة عن التنفيعات البشرية، "لا تنقصنا الخبرات ولا الكفاءات، ولا حتى التمويل الذي يؤمن بجرة قلم لمثل هذه المشاريع، إنما ما ينقصنا النية فقط"، برأي خوري. وأبسط دليل على ذلك هو التصدي منذ أعوام لاستبدال الطوابع الأميرية برسم مالي. فتُطبع بين الفترة والأخرى ملايين الطوابع وتوزع على المنتفعين لتباع بأضعاف مضاعفة سعرها الحقيقي. وعلى الرغم من إقرار وزارة المالية رسم الطابع المالي قبل أيام، فان الكثير من المعاملات على غرار السجل العدلي ما زالت تتطلب الطابع الأميري الملموس، و"إذا كنت شاطراً، إحصل عليه بقيمته الحقيقة، المحددة بـ 10 الاف ليرة". أكثر من ذلك تشير معلومات مؤكدة إلى ان مشروع مكننة وزارة الصناعة قد انجز بكلفة لا تتجاوز 300 ألف دولار. وعلى الرغم من المبلغ الزهيد بالمقارنة مع فوائده الكبيرة، فان المشروع رمي بالأدراج على غرار الكثير غيره من المشاريع. وعليه نستنتج بسهولة أن الفساد المؤسسي أقوى من أي قرار حتى ولو كان بسيطاً.
كيف يمكن أن نستمر؟
القادم من الأيام سيكون على غرار تلك المدبرة. فـ"الفساد المؤسسي وحكم اللصوص يخلقان من خارج القانون شبكة مصالح، تؤمّن مصدر عيش لفئات إجتماعية"، من وجهة نظر خوري. "وعلى عكس ما يعتقد البعض أن النظام في لبنان ينحو باتجاه حكم القلة المتمولة "الأوليغارشية"، التي تمتص الخيرات ولا توزعها، فانه أكثر "كليبتوقراطياً". فهذه الطبقة التي يتشكل منها النظام تمتد بين الطوائف وتعيش على الفساد المؤسسي، وتقودها مجموعة تسيطر على الدولة وتعيد توجيه خدمات الدولة لمصلحتها. وهي بذلك تنفّع مجموعة كبيرة من الفقراء، وتخلق طبقة وسطى تشبهها وترتاح لها، ومن خلالها يمر كل التمويل الذي يحصل عليه لبنان".
المؤسف أن تسليم إدارة الأزمة لهذه الطبقة، لا يجعلها عصية عن الحل فحسب، إنما يكرس موقعها أكثر في النظام. وهي تحاول من خلال القوانين الإصلاحية التي تعمل على إقرارها على تكبير مكاسبها وتعميق دورها. ولعل قانون "الكابيتال كونترول" هو المثال البارز على ذلك. فهذا القانون يضع الحل والربط في ما يتعلق بتصنيف الأموال، وتحديد طبيعتها، والكمية المسموح إخراجها... في يد لجنة مؤلفة منهم. "وهذه اللجة لن تتأخر للتحول إلى أداة تمر من خلالها أكبر المصالح في البلد"، يقول خوري. وبالتالي خلق سلطة جديدة قائمة على الخروج عن الدولة".
المشكلة في لبنان مع المنظومة الحاكمة ليست داخلية، فعلى ما يبدو أن للمجتمع الدولي مصلحة بتغطيتها، أقله لغاية الآن. ولن يعود الأمل ببناء دولة القانون والمؤسسات وتحقيق الاصلاحات الاقتصادية إلا برفع الغطاء عن هذه المنظومة.
تبخّرت معظم زيادات الرواتب
مثال آخر عن كيفية سرقة المواطنين: يقول وهبي، الموظف في القطاع العام «يا فرحة ما تمت بلشنا بـ 3 معاشات، وخلصنا بمعاش ونصف». فالموظفون خسروا في الفترة الفاصلة بين إقرار الزيادة بمقدار 3 أضعاف على الرواتب، وهندسة البنك المركزي الجديدة نصف رواتبهم. فراتب الموظف الذي أصبح يساوي 9.4 ملايين ليرة مثلا، كان يعادل 300 دولار على سعر صيرفه 31200. ومع تخفيض سعر صيرفة إلى 38 ألف ليرة أصبح الراتب يعادل 246 دولاراً. كما خسر الراتب ما لا يقل عن 1.2 مليون ليرة، بسبب هبوط سعر الصرف في السوق الموازية من 47500 ليرة إلى 44 الف ليرة. ولو رجعنا قليلاً بالزمن إلى تاريخ إقرار الزيادة على الرواتب، لكان دخل الموظف نفسه يساوي 360 دولاراً، لان سعر صيرفة كان 26 ألف ليرة. وعليه يكون الموظف الذي يتقاضى 9.4 ملايين ليرة قد خسر نحو 129 دولاراً (60+54+25) وبقي له 246 دولاراً. وإذا أضفنا ما سيتكبّده الموظف من زيادة على فواتير الاتصالات والكهرباء المقيّمة على سعر صيرفة، بإمكاننا القول إنّ الموظف خسر حوالى 50 في المئة من راتبه. وفي جميع الاحوال فان الدولارات التي تدفع للموظفين وحاملي الليرة والتي بلغت ربع مليار دولار في يومين فقط، تتأتى مما تبقى من أموالهم في المصارف، أو من خلال شراء المركزي الدولار من السوق الموازية. وفي الحالتين تتسبب بارتفاع الأسعار وزيادة التضخم وانهيار القدرة الشرائية لليرة.