Advertise here

جنوب أفريقيا واستشراء الفساد

25 كانون الأول 2022 07:29:53

أخيراً، تمكن الرئيس الجنوب أفريقي سيسل رامفوزا، يوم الاثنين الماضي، من حسم معركة زعامة المؤتمر الوطني الأفريقي، بخروجه منتصراً. وسيقود، لخمس سنوات أخرى، المؤتمر الوطني الأفريقي. حسم معركة الزعامة، وضعه على طريق تقود إلى معركة مقبلة أشدّ، وهي الانتخابات النيابية في عام 2024. التقارير الإعلامية الغربية تتفق على احتمال خسارة المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم لأغلبيته البرلمانية للمرّة الأولى، منذ 1994، العام الذي يعلّم لنهاية نظام الميز العنصري، ووصوله إلى الحكم، تحت قيادة المناضل نيلسون منديلا.
الرئيس رامفوزا، لولا تدخل حُسنُ الحظ، لربما كان مصيره السجن وليس كرسي الزعامة. ما أطلقت عليه وسائل الإعلام فضيحة «فارم - غيت» كادت تطيح به ليس من زعامة الحزب فقط، بل من المسرح السياسي نهائياً.
الفضيحةُ جاءت في وقت حرج جداً سياسياً واقتصادياً. فمن الناحية السياسية تميّز بانقسام المؤتمر الوطني الأفريقي نتيجة اشتداد حرارة الصراع على السلطة بين قادته، خصوصاً بين الفصيل الذي يتزعمه الرئيس السابق جاكوب زوما، والفصيل المؤيد للرئيس رامفوزا. وما حدث هو أن أنصار الرئيس السابق لم يغفروا للرئيس رامفوزا إزاحة الرئيس زوما من الحكم عام 2018، بعد اتهامه في قضايا فساد، وسجنه، نتيجة رفضه المثول أمام المحكمة. ومن الناحية الاقتصادية، تمرّ جنوب أفريقيا، منذ أزمة الوباء الفيروسي، بمرحلة اقتصادية صعبة. واستناداً إلى تقارير إعلامية، ارتفعت نسبة البطالة بين السكان السود إلى نحو 50 في المائة. أضف إلى ذلك تواصل معضلة انقطاع التيار الكهربائي، ولفترات طويلة تصل إلى 10 ساعات يومياً، ما يؤدي إلى خسارة الاقتصاد ما قيمته 190 مليون دولار يومياً. أزمة الكهرباء، يقول معلقون، أكبر تجسيد لظاهرة انتشار الفساد في جنوب أفريقيا، وتغلغله في القطاعات كافة. وتبيّن أن السبب الرئيسي يعود إلى السرقات الكبيرة التي تتعرض لها شركة توليد وتوزيع الكهرباء الحكومية، وما تتعرض له معداتها وأجهزتها من تخريب متعمّد، بهدف إثارة السخط الشعبي وإسقاط الرئيس رامفوزا.
فضيحة «فارم - غيت» المحرجة، وضعت الرئيس رامفوزا في قفص الاتهام سياسياً. وهي، كما وردت في وسائل الإعلام، تتعلق بسرقة مبلغ مالي، كان مخبأ في أريكة، بمزرعة الرئيس الخاصة. الرئيس رامفوزا في تبريره لوجود أموال مخبأة في مزرعته، قال إن المبلغ كان ثمناً لجواميس باعها إلى تاجر سوداني، وإنه قام بالتبليغ عن السرقة. ويزعم خصومه أن المال المسروق من العملات الأجنبية، يتجاوز الثمن الذي يزعم الرئيس رامفوزا أنه ثمن الجواميس المبيعة، وأن الرئيس بدلاً من إبلاغ الشرطة للتحقيق في السرقة وملاحقة اللصوص، أبلغ أفراد الوحدة الأمنية المكلفة حمايته، لتفادي التحقيق وراء وجود المبلغ المالي الكبير في المزرعة، وتهرّباً من دفع ضرائب مستحقة للدولة. ويشيرون إلى بقاء الجواميس المبيعة في مزرعة الرئيس، بعد مرور عامين على صفقة البيع.
ملف القضية - الفضيحة أغلق الآن، لكن أسئلة خصوم الرئيس لم تحظَ بإجابات. وتمكن رامفوزا من دخول معركة الزعامة ودحر منافسه، وهو وزير صحة سابق في حكومته، ويقال إنه أيضاً تلحقة تهمة فساد، كونه أساء التصرف في الميزانية المخصصة لشراء التطعيمات ضد الفيروس الوبائي، بتوجيهها إلى جهات تعود عليه بالنفع شخصياً، وهو ينفي الاتهام.
الوضع الاقتصادي السيئ، مقروناً باستشراء الفساد بين النخب الحاكمة، مثلما عليه الحال في جنوب أفريقيا ليس جديداً، بل يكاد يكون ظاهرة تختصّ بالأحزاب والحركات التي قادت شعوبها في معركة التخلص من الاستعمار، ثم وصولها إلى الحكم. أهم العوامل المشتركة بينها هي أن الفواصل الموضوعة بين الحزب والدولة تنمحي بعد مرور سنوات قليلة، ومن دون ضجة. ويصبح الحزب هو الدولة، وأن اختيار الرؤساء يتم عادة على ما حققوه خلال مرحلة المقاومة ضد الاستعمار، وليس لكفاءتهم في إدارة دواوين الدولة. 
يأتي بعد ذلك انتشار واستفحال داء الفساد، وعادة يبدأ من القمة، حتى يطال كل المستويات، وخلاله يتحول أبطال التحرير وقادة الاستقلال إلى فئة مميزة فوق القانون، تستحل أموال الدولة وأملاكها، ويتسابق أفرادها لعقد صفقات مشبوهة مع الشركات ورجال الأعمال بهدف تجميع الثروات، وتحويل الأموال في مصارف أوروبية، وشراء العقارات في أرقى الأحياء بعواصم العالم.
وأياً كان السبب وراء وجود مبلغ مالي كبير، من العملة الأجنبية، مخبأ في أريكة بمزرعة يملكها رئيس البلاد، فالأمر يظل متسقاً مع واقع يتغوّل فيه الفساد، سواء في جنوب أفريقيا، أو في غيرها. لكن السؤال الذي ما زال يبحث عن إجابة منذ انتهاء المرحلة الاستعمارية، هو لماذا أخفقت حركات التحرر الوطني في تأسيس وبناء أوطان ديمقراطية، يسودها النظام وحكم القانون، وتساوي الفرص؟ ولماذا يتخلّى مناضلون عن تاريخهم النضالي، ويتحولون، بين عشية وضحاها، إلى مستبدين يستعبدون شعوبهم، وإلى لصوص لا همّ لهم إلا تجميع الأموال وتهريبها إلى الخارج؟