Advertise here

مواجهات دستورية ليست بجديدة..

17 كانون الأول 2022 07:45:00 - آخر تحديث: 17 كانون الأول 2022 11:06:01

من أصعب المهمات أن يلتقي خبيران دستوريان أو أكثر لِيفنّدا بعض الاجتهادات والفتاوى الدستورية التي تحكّمت بعدد من المحطات المفصلية في لبنان قبل ان تنتهي المهمة الى فوز الأقوى سياسياً. فالتجارب على مثل هذه النظرية لا تحصى. وبعيداً من تردداتها التي تنعكس على حياة اللبنانيين وسلامتهم إن امتلك أيّاً منهم عصا، فإنّ بعض العقلاء يعتقدون انّ أفضل حل، بعد وضع الدستور على الرف، الإعتزال رفضاً لطريقة تعاطي «سنبلة القمح» مع الريح حتى عبورها. وعليه، كيف السبيل الى مثل هذه المعادلة؟

ليست المرة الاولى التي يدور فيها الجدل الدستوري حول مضمون مجموعة من المواد الدستورية قبل التوصّل الى ترتيب المخارج المؤقتة لبعض الازمات التي عاشتها البلاد في عقود. وإن تمكّن أحدهم من جمعها وإحصائها فإنه سوف يصدر اول مجموعة حقوقية نادرة لا يمكن أن تترجم في أي بلد غير لبنان ولو كان نظامه ديموقراطيا برلمانيا أو أنه استقى دستوره من نص الدستور الفرنسي وروحه كما حال الدستور اللبناني مع بعض اللمسات الخاصة التي تجسّد بعض خصوصياتنا.


ولذلك، فإن الحديث عن بعض الأزمات التي نشأت في لبنان على خلفية تفسير احدى المواد الدستورية لا تقتصر كما هي اليوم حول مضمون المادة 49 ومواد اخرى ظهرَ انها على ارتباط بآلية انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية، بل تَعدّتها الى مجالات أخرى. ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يتّصل بالنصاب القانوني لجلسة انتخاب الرئيس، حيث تداخلت المواد بعضها ببعض الى أن قادت الى مجموعة من التفسيرات المتناقضة عند إجراء المقارنة بين المواد المتشابهة، وتحديداً بين ما يقول به الدستور وتلك التي يتحدث عنها «النظام الداخلي» لمجلس النواب ان ارتبط الأمر بمهمة «السلطة التشريعية». وربما انتقلت الازمة الى آلية العمل على مستوى «السلطة الاجرائية»، وتحديداً مجلس الوزراء، طالما انّ النظام الداخلي لهذا المجلس لم يصدر بعد منذ أن تم التفاهم على وضعه في وثيقة الوفاق الوطني المعروفة باتفاق الطائف قبل ترجمتها الى تعديلات دستورية أقرّت بموجب القانون الدستوري الرقم 18 الصادر في 9 أيلول 1990.


على هذه الخلفيات لم يعد اللبنانيون يستغربون الحديث عن اي خلاف او مواجهة دستورية وقانونية يمكن ان تقع بين اثنين أو ثلاثة من جهابذة الدستور. فبعض التعديلات الدستورية التي حسمت محطات اساسية من تاريخ لبنان لم تنس، وبقيت تحفر عميقاً في وجدان اللبنانيين. وقد كان أبرزها تلك التي جاءت بإشارة من الخارج فأنهَت أي نقاش حول صوابية الخطوة من عدمها. عندما تم التمديد للرئيس الياس الهراوي في مانشيت جريدة «الأهرام» المصرية عنواناً على الصفحة الاولى لحديث أجرته الصحيفة يومها مع الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد قبل أن يلتئم المجلس النيابي لتعديل المادة المستهدفة، كما جاء التمديد للرئيس العماد اميل لحود بطريقة أكثر لياقة ولكن بفارق بسيط، فقد جاءت كلفتها السياسية غالية ان احتسبت النتائج التي ترتّبت عليها في أكثر من مجال. ولا ينسى اللبنانيون انه وفي كلتا الحالتين قيل في النص الدستوري انّ هذا التعديل سيعتمد «لمرة واحدة».


واذا عاد اللبنانيون الى التجارب السابقة فقد تميّزت مجموعة القوانين التي مددت للمجلس النيابي لعقدين من الزمن قبل الوصول الى «اتفاق الطائف» باعتماد عبارة «الظروف الامنية القاهرة» التي يستحيل معها اجراء الانتخابات النيابية، الى ان أعيد استخدامها في التمديد للمجلس النيابي عام 2013 بحجّة ان الوضع في مدينة طرابلس لا يسمح بإجرائها، فيما كانت البلاد تعيش ظروفا امنية مقبولة. ولذلك جرى تعطيل المجلس الدستوري شهرا كاملا فكان ذلك كافيا لتجاوز المهلة القانونية للبَت بالطعن الذي تقدّم به يومها كل من رئيس الجمهورية ومجموعة نيابية أخرى أصولاً. ولم ينفع التذكير يومها ان دورات انتخابية أجريت ابّان الاحتلال الاسرائيلي وتجاوزت ما انتهت إليه موجات التهجير الداخلية، فنقلت صناديق اقتراع بعض المناطق الى أخرى آمنة بعيدة عنها. ونصب البعض منها في خِيَم كما اعتمدت مراكز القوات الدولية «اليونيفيل» لتكون أكثر أمناً من مواقعها الاصلية.


وإن تكررت الخلافات حول تفسير الدستور أكثر من مرة، فإنها لم تشكل اي انعكاس يُحكى عنه في بعض المحطات، مثل انتخاب الرئيس العماد ميشال سليمان، وكان آنذاك قائداً للجيش، ببزّته العسكرية رئيساً للجمهورية في 25 أيار عام 2008 من دون تعديل المادة 49 من الدستور ولم يتنبّه للأمر سوى قلائل، ولكن التوافق السياسي الذي انتهى اليه «مؤتمر الدوحة» أطاح كل النظريات الدستورية والقانونية ولم يُعِرها اي أهمية ولم تكن له أي ارتدادات تُذكَر.


إلا أن هذه الحالة لم تدم طويلاً، فتجدّد الخلاف حول المواد الدستورية عينها طوال فترة خلو سدة الرئاسة من شاغلها في نهاية عهد الرئيس سليمان بين 25 أيار 2014 وتاريخ انتخاب الرئيس العماد ميشال عون في 31 تشرين الاول 2016، ولم يتمكن اللبنانيون يومها من تفسير المادة 49 من الدستور بما يُعادل رقمها من الجلسات الانتخابية التي اقتربت من 49 جلسة. ولذلك، فإنّ تعداد الجلسات التي اختتمت هذه السنة بالعاشرة منها لانتخاب الرئيس من دون التوصل الى انجاز هذه المهمة الدستورية ما زال في البداية وقد يطول مسلسلها. فقد سبق لهم أن تجاوزوا مهلة الستين يوماً قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، عدا عن الخلاف حول اعتبارها مهلة الزامية يرتّب تجاوزها من جانب النواب باتهامهم بارتكاب جرائم جزائية أو كونها مهلة حَض ولا مترتبات قانونية او دستورية على تجاهلها.


على هذه الخلفيات، لا يمكن أن تتجاوز أي عملية مقارنة بين ما يجمع بين هذه الحالات على تنوّعها من دون الاشارة الى وجود مَن أتقَن تقديم الاجتهادات «غب الطلب». ومن المهم جداً في مثل هذه الحالات المتكررة أن يعرف طالب الاستشارة ما يريده بوضوح لتأتي القراءة الدستورية مع الاجتهادات والأسباب الموجبة الضرورية والكافية لإرضائه مهما كانت مطالبه معقّدة وصعبة، فالسيناريوهات الأصلية والبديلة يمكن أن تأتي بالنتيجة عينها وبدقة متناهية، وكيف ان كانت تستند الى «قوة قاهرة» يمكنها ان تكون بديلاً غير مرغوب به دستوريا وقانونيا.


وكنتيجة دستورية لهذا العرض، الذي يمكن التوسّع به ان توسّع البحث عن المواد الدستورية والقانونية التي يعوق تفسيرها الموحّد حل كثير من الازمات الداخلية وليس أقلها الازمة المرتبطة بطريقة إحياء «الهيئة العليا لمحكمة التمييز» تمهيداً للإفراج عن التحقيق في جريمة تفجير المرفأ من قبل المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، فإنّ أحد المراجع الدستورية من المستقلين والحياديين الذي يراقب بدقة كيفية تحكّم «الاقلية النيابية» بـ»الأكثرية النيابية» ان بقي الإصرار قائماً على نصاب ثلثي أعضاء المجلس كنصاب قانوني في الدورات التي تلي الجلسة الانتخابية الأولى للرئيس، باتَ يفكر بالاعتزال او تجميد عمله على الاقل في المرحلة الراهنة الى أن تستعيد الحياة الدستورية طبيعتها في ظل الغابة التي تعجّ بالخبراء والمحللين الدستوريين.