Advertise here

السودان أمام تجربة إنقاذ جديدة... مساكنة بين العسكر والمدنيين

13 كانون الأول 2022 17:24:10

في الحسابات الجيوسياسية، يُربك عدم الاستقرار الذي يعيشه السودان منذ ما يزيد على 3 سنوات القوى الكبرى، وقوى الإقليم المجاورة، لأن السودان عامل توازن في القارة الإفريقية، ويشكل تقاطعاً تلتقي حوله هذه القوى، ولكلٍ منها حساباته الخاصة. فالولايات المتحدة الأميركية تتخوف من تحوُّل البلاد لمكان آمن للمنظمات الارهابية المتطرفة، بينما تتطلع اليه الصين كممر الزامي لإستكمال حلقة "الحزام والطريق" التي تصلها باستثمارات القارة الواعدة، بينما الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية يبحثان في السودان عن هدوء لا يسبِّب وجع رأس لهما، انطلاقاً من الرابط القومي العربي معه بالنسبة للجامعة العربية، وعلى اعتبار أن السودان جزء من المدى الحيوي الأفريقي للمصالح الموروثة بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
 
فريقا الأزمة السودانية بالغا في التشدُّد خلال المرحلة الماضية التي أعقبت اتفاق السلام الذي تمَّ التوقيع عليه بين الطرفين في جوبا في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، وكاد الوضع في البلاد أن يتحول الى فوضى شاملة تًهدد وحدة الدولة، بعد أن لجأت القبائل والأقاليم الى اقتناء السلاح وتجميعه، كما كاد عدم التنسيق بين الجيش النظامي بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو أن تنتج ثنائية أمنية تنذر بعواقب وخيمة على المستقبل.
 
اتفاق الإطار الذي تمَّ التوقيع عليه في القصر الرئاسي بالخرطوم في 5 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، بين القيادات العسكرية من جهة وبين القوى والأحزاب التي تمثل المجتمع المدني من جهة ثانية؛ كان خطوة أولى هامة على الطريق الصحيح بعد سنة من الخصام بين الفريقين، وقد يكون السبيل الوحيد المُتاح لبدء مرحلة جديدة تضمن الخروج من المستنقع المُتعب الذي يعيش فيه السودان. والمهم في اللقاء الجامع؛ أن القيادات العسكرية ظهرت موحدة، والتزمت تسليم السلطة لحكومة مدنية، والتوافق الذي حصل على ادخال قوات الدعم السريع في الجيش تحت قيادة واحدة ضمن مجلس الأمن والدفاع الذي يرأسه رئيس الدولة؛ يعتبر من أهم عناوين اتفاق الإطار، ويشكِّل أساساً هاماً لإنطلاق المسيرة الجديدة.
 
قوى المجتمع المدني التي تمثل المجموعات والأحزاب التي شاركت في "ثورة 2019" حضرت في غالبيتها احتفال التوقيع على الاتفاق، لا سيما منها الحركات المنضوية في إطار "قوى الحرية والتغيير" وتمثلت بخمسين حزباً سياسياً، وأوحى حضورها لرئيس المجلس السيادي الفريق البرهان مشهداً دفعه لإلقاء خطاب عفوي لاقى ارتياحاً كبيراً، وشعاره الأساسي "الجيش الى الثكنات والأحزاب الى الانتخابات" في إشارة الى الالتزام بمندرجات الاتفاق الذي ينص على تعيين حكومة مدنية تلتزم تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية ضمن المرحلة الإنتقالية التي ستمتد الى 24 شهراً، ومن بعدها تصبح مؤسسات الدولة بالكامل بيد المدنيين المنتخبين من القواعد الشعبية.
 
ومن البنود الرئيسية التي تضمنها الاتفاق؛ حصر استثمارات الجيش في الصناعات العسكرية، والتخلي عن كل الاستثمارات الأخرى في القطاعات المختلفة، بهدف ابعاد الجيش نهائياً عن أي نشاط فيه تداخل مع الحياة السياسية، كما اشترط الاتفاق على القوى السياسية عدم التدخل في شؤون الجيش على الإطلاق، وحصر قيادة القوى المسلحة بمجلس الأمن والدفاع الذي يترأسه رئيس الدولة المدني. وحلّ هذه الإشكالية لاقى ارتياحاً واسعاً لدى الأحزاب المشاركة، لأنه سيؤدي الى القضاء على ظاهرة تأطير مدنيين مساندين للقوى العسكرية في الشارع، وبالتالي ينحصر العمل السياسي بالأحزاب القائمة.
 
لا يمكن التقليل من شأن الغائبين عن حفل توقيع اتفاق الإطار من المدنيين والعسكريين، لكن هؤلاء لا يحملون مشروعاً للحل، وغير متفقين على برنامج واحد، ولا يملكون قدرة على افشال الاتفاق، وتأتي معارضتهم في سياق تنوع القوى الواسع الذي امتازت فيه الساحة السودانية، ويمكن استيعاب احتجاجاتهم مع الوقت، إذا ما سارت الأمور وفق ما رُسم لها، ذلك أن تجارب السنتين الماضيتين؛ ساهمت في زعزعة الثقة بين أفرقاء الأزمة، وهناك قوى يساورها الشك الدائم في نوايا العسكريين، خصوصاً بعد تجربة الانقلاب الذي نفذه الفريق البرهان على حكومة عبدالله حمدوك المدنية في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، وأطاح فيه بتفاهمات اتفاق جوبا للسلام الذي اعلن في العام 2019 على أثر خلع الرئيس عمر حسن البشير.
 
الغطاء الدولي والإقليمي الكبير لاتفاق الإطار، سيساعد في تذليل العقبات التي تواجه تنفيذه، وهو حظي بتأييد دول عربية عديدة، ورحبت به الولايات المتحدة الأميركية وشركاؤها، إضافة لكون الاتفاق حصل برعاية دولية وإفريقية تمثلت بمبعوث الأمم المتحدة الدائم للسودان مونكر بيرثيس، وممثلين عن الإتحاد الافريقي. وأكد بيرثيس لمجلس الأمن الدولي أنه متفائل بتأليف حكومة مدنية جديدة، كما أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن رحب بحماسة بتوقيع الاتفاق، وأعلن عن استعداد الولايات المتحدة الأميركية لتقديم المساعدة في تنفيذ مندرجاته، بما فيها فرض عقوبات على المعرقلين، وبلاده ستتراجع عن قرارها بتوقيف المساعدات المالية والإنسانية الذي اتخذته بعد تطورات تشرين الأول (أكتوبر) 2021، وهي ستقف الى جانب الشعب السوداني في محنته المعيشية.
 
المحتمع الدولي بغالبيته ضاق ذرعاً من استمرار الأزمة في السودان، والدول العربية والإفريقية دفعت بجهود كبيرة في سبيل الحل، ولم يرِق لها رؤية البؤس الذي سببه عدم الاستقرار لشعب السودان، وهو بالأساس يعاني بغالبيته من الفقر والحاجة ومنذ زمنٍ بعيد. ولدى هذه القوى مجتمعةً أملاً بأن يفتح اتفاق 5 كانون الأول الجاري صفحة جديدة تصنع سلاماً دائماً.