Advertise here

مخاوف تؤجّل الإنجاب: "إلى أيّ مكان وزمان سآتي به"؟

12 كانون الأول 2022 07:45:00

لم يعد خيار الإنجاب باليسر الذي كان عليه سابقاً. صار الثنائي يحسب له ألف حساب. حسابات معيشية وصحيّة وأمنيّة وجغرافيّة وثقافية... وحتى مناخيّة. كلّها مخاوف ترتبط بالقدرة على تحمل مسؤوليّة طفل في الظروف الصّعبة المحيطة. هكذا تحوّلت نصيحة «بيجي الولد وبتجي رزقتو معو» إلى نكتة، لا تنطلي على زوجين يتخبّطان لتأمين الحدّ الأدنى من احتياجاتهما، في ظلّ أزمة اقتصادية خانقة وتضخّم أسعار جنوني. المخاوف من عدم القدرة على إطعام المولود وتأمين حقه في الطبابة واللباس والتعليم والترفيه… كلّها تدفع نحو تأجيل مجيئه إلى الحياة.

"ليس الآن"
مرّت ستة أشهر على زواجهما، ولا ينفكّ علاء يتمنّى على زوجته فاتن أن تمنحه مولوداً. «أريد أن أصير أباً»، يلحّ عليها. هي تحبّ أن تصبح أمّاً، ولكن، «ليس الآن»، تردّد على مسمعه. فـ«الوضع العام في لبنان لن يؤمّن حياة كريمة لطفلي». يحاول أن يطمئنها بالقول: «مستعدّ أن أقوم بأكثر من عمل لأؤمّن كل ما يحتاج إليه الطفل»، لكنه لا ينجح في إقناعها.

بعد أربع سنوات على خطوبتهما «خاطرنا وتزوّجنا بإمكانات مادية متآكلة، فهل أخاطر بإنجاب طفل»؟ تسأل. ترى الأمر «مخاطرة»، لأن «ما يتقاضاه علاء من المؤسسة العسكرية بالكاد يكفينا نحن الاثنين». ثم تنظر إلى البعيد فتضيع في سوداوية أفكارها المبعثرة: «إلى أين سآتي به؟ أخاف عليه من بيئة تتكرّر فيها حوادث الاغتصاب والتحرّش والخطف… وإذا أنفقت على تعليمه، هل سيجد عملاً؟»

تقشّف في الإنجاب
لطالما كانت الآراء حول موضوع الإنجاب متباينة بحسب المستوى الثقافي والتعليمي للأهل، وبحسب البيئة التي يعيشون فيها. القرويون مثلاً كانوا أنصار مقولة: «كلّه يعيش» عندما كان نمط الحياة العصري خارج حساباتهم. برأي بعضهم: «ولد إضافي يعني صحناً إضافياً على المائدة فقط، اللباس نفسه يدور بين الأولاد، والتعليم والترفيه رفاهية يمكن الاستغناء عنها». هذا قبل أن تحلّ الأزمة الاقتصادية، ويصير الحدّ الأدنى من الاحتياجات خارج متناول الأهل ولا سيما الأكل والطبابة.
تلاحظ فاطمة كيف صار أبناء بلدتها الجنوبية حيث تقطن «يتقشّفون في إنجاب الأولاد». فقبل عام 2020، «كان يمكنك أن تجد أكثر من سيدة عشرينية تحمل بمولود خامس أو سادس رغم قدراتها المادية المتواضعة، لكن اليوم تنحصر الولادات في منازل حديثي الزواج، وأصحاب العائلة الصغيرة حيث يفكر الأهل في ضرورة إنجاب أخ أو أخت للولد». الناس في القرى همّهم في محلّ آخر أصلاً، يفكرون في تأمين قوت الغد ووسائل التدفئة ووسائل الصمود.

الكوكب غير صالح
من يتابع عن كثب أخبار الكوكب، ويقلق فعلاً من الكوارث المناخيّة التي نعيشها، يرى أن التناسل ظلم للأجيال القادمة التي «سترث أرضاً غير صالحة للحياة». ومن يراقب المسار الصحي الخطير الذي نسلكه، وتكاثر الأوبئة والأمراض والفيروسات… في ظل جهاز صحي مهترئ في لبنان، «يرعبه» تحمّل مسؤولية طفل.

قبل مجيء جاد إلى الحياة منذ أربع سنوات، كانت مخاوف والده ماهر تقتصر على حجز الحرية. لكن، «منذ اللحظة الأولى التي أمسكت فيها به، تلاشت كلّ مخاوفي واعتراني شعور جميل جداً، حتى صار جاد زينة حياتي». يخطر على باله أن يأتي له بأخ أو أخت «لعدة أسباب من بينها الشعور بالطمأنينة الذي تبعثه العائلة الكبيرة مقابل الخوف من الشعور بالوحدة في الكِبر»، ثم يقمع أمانيه «ثقل المسؤولية المترتبة على الإنجاب في ظروف كهذه». يشرح: «لا أستطيع أن أؤمّن له الحماية من الأمراض والأوبئة التي لا تنتهي، وإذا حافظت على قدرات مادية يحتاج إليها، فإن الوضع العام في البلاد غير مطمئن ولا سيما انقطاع الأدوية واللقاحات وحليب الأطفال»...

«إن الله لا يتركنا لنهلك بكوارث طبيعية أو نموت جوعاً»، بهذه العبارة يفسّر حسين ارتياحه عقائدياً وغياب القلق من المستقبل حول تربية ولديه. ما يخيفه فعلاً هو البيئة التي يكبران فيها، ويقصد البيئة الجغرافية والثقافية. من جهة، يريدهما أن يكبرا في أحضان الطبيعة تحت ظلال الأشجار، ويبنيا علاقة طيبة مع الأرض. ومن جهة ثانية، تقلقه «مظاهر الانحراف» التي توفرها الحياة في المدينة. لذلك، «الحلّ الوحيد هو الانتقال إلى القرية حيث أعرف جميع أبناء الحي، ولا يخيفني احتمال أن يتعرّض شاب يحشش لأولادي مثلاً، وهو حلّ غير ممكن لأسباب اقتصادية». رغم ذلك، لا يفكر حسين بمولود ثالث في الوقت الحالي، لأن «الولد الثاني عوّفني حالي»، ويروي كيف شغل ابنه باله طيلة النهار و«أذلّني»، على حدّ تعبيره، لأنه لم يشترِ له حذاء أسوةً بأخته.

لسنا مستعدّين نفسياً
إلى جانب الظروف العامة الضاغطة على الأهالي، هناك من يتردّد في الإنجاب بسبب الخوف من مسؤولية الأمومة والأبوة، وعدم استعداده النفسي لحملها. بعد أيام، ستُزفّ سارة عروساً. لن يزيّن الأولاد عشّها الزوجي لسنوات قادمة. فـ«بعد بكير»، تجزم. لماذا؟ تجيب: «لا تزال فكرة الزواج جديدة وأحاول استيعابها، ولن أنشغل باستيعاب فكرة جديدة أخرى هي الإنجاب». وتضيف: «ما زلت صغيرة لأكون أماً، فأنا في الـ22 من عمري وأريد متابعة دراستي الجامعية والعمل، كما أريد أن أعيش شبابي». يشجّعها زوجها على قرار تأجيل الإنجاب. فهو يكبرها بسنة واحدة ولا يستعجل حمل مسؤولية الأبوّة وتحميل زوجته مسؤولية الأمومة.

وكما تريد سارة أن «تعيش حياتها» قبل أن تصير أمّاً، تخاف ريم على مساحتها الشخصية إذا حقّقت أمنية زوجها وحملت بالولد الرابع. يكرّر على مسمعها كلما أخبرته أن لا وقت لذلك: «أمك أنجبت عشرة وأنت تستكثرين عليّ أربعة؟» فتجيبه: «ذلك زمان غير زماننا». ترى أن المولود الجديد يحتاج إلى وقت واهتمام لا تستطيع توفيرهما، فهي تعمل بدوام طويل وتطمح لمتابعة دراساتها العليا. وتشكو: «عدم تعاون زوجي ورميه الحمل كلّه عليّ»، وتخاف إن أنجبت ولداً رابعاً «أن يجدها حجّة ليضغط عليّ لأترك عملي».