لم تؤد الاتصالات واللقاءات المتجددة بشأن الملف الرئاسي محلياً وخارجياً إلى أي نتائج تعطي انطباعاً حول عقد تسوية تسمح بإنجاز الاستحقاق المعطل في لبنان. المؤشرات تدل على استمرار الخلاف الداخلي أولاً بين الفرقاء السياسيين وإلى مزيد من الاستعصاء الذي يراكم العجز عن الاتفاق على مرشح تسووي للرئاسة والسير في عملية الانقاذ. وعلى الرغم من تحول بكركي إلى مركز استقطاب في الاستحقاق الرئاسي، إلا أن البطريرك الماروني ليس في وارد جمع الأقطاب المسيحيين للاتفاق على مرشح قوي للرئاسة وهي وفق المعلومات لن تكرر تجربة سابقة أدت في النهاية إلى انتخاب ميشال عون رئيساً في 2016 وما رتبه ذلك من انعكاسات سلبية على البلد، وذلك على الرغم من حصرصها على ترتيب البيت المسيحي. فيما "حزب الله" لا يزال متمسكاً بشروطه ولم يحد قيد أنملة عن تبني مرشحه سليمان فرنجية على الرغم من دعوة نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم إلى تدوير الزوايا للاتفاق على مواصفات مشتركة بين الكتل المختلفة، لتحديد الاسم.
الاجواء تشير إلى أن الفراغ الرئاسي سيستمر إلى وقت طويل، فيما تسوية انتخاب رئيس للجمهورية والاتفاق على رئيس للحكومة ستبقى في دائرة الاخذ والرد إلى حين حدوث تطورات إقليمية ودولية توفر دفعاً حقيقياً للحل وتمهد الطريق لتراجع الأفرقاء الداخليين عن شروطهم المرتفعة. الأمثلة كثيرة في المشهد اللبناني على تعقيدات الحل، وصوره تتوزع على الاستعصاءات المتبادلة وإن كانت متفاوتة على ما تعكسه من خلافات عميقة للمرحلة اللبنانية المقبلة. فإذا كان التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل لا يزال يرفض الأسماء المتداولة للرئاسة خصوصاً مرشح فريقه الممانع سليمان فرنجية وأيضاً لا يوافق على قائد الجيش جوزف عون لأسباب لها علاقة بحساباته وإمكان أن يسحب قائد المؤسسة العسكرية جمهور التيار الوطني إلى صفه، فإنه يدعو البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى إدارة حوار مسيحي للاتفاق على مرشح رئاسي، بالتوازي مع دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري للحوار. لكن هذا الحوار وفق مصدر سياسي متابع يهدف بالدرجة الاولى إلى تخفيف حدة التوتر لتمرير المرحلة الخطرة ومنع انزلاق الوضع إلى مواجهات وفوضى في غياب التسوية والمؤسسات.
البحث عن تسوية يصطدم بحسابات القوى السياسية والطائفية حول التوازنات ومراكز القوى في البلد.
ويبدو أن مفهوم التسوية يختلف بين طرف وآخر، ليس فقط داخلياً وانما خارجياً. تظهر الاختلافات في ضوء الصراع القائم، والاولويات لدى كل فريق تبعاً لحساباته المحلية والإقليمية. المشكلة الأولى التي تقف في وجه إحراز أي تقدم نحو انجاز الاستحقاق الرئاسي هي عند "حزب الله" المتوجس من توتر علاقته مع التيار الوطني الحر وخوفه من فقدان التغطية المسيحية لدوره، وإن كان مقتنعاً بأن العونيين هم بحاجة إليه أكثر للحفاظ على مكتسباتهم التي تكرست في عهد الرئيس المقاوم. الاستعصاء الذي يمثله الحزب يعود إلى فائض قوته وإمساكه بالعديد من الملفات الرئيسية بما فيها الحكومة، ولذلك لا يزال عند شروطه في الملف الرئاسي والحكومي أيضاً واستطراداً التسوية. ووفق معلومات من مصادر متقاطعة أن الحزب مصر على اسم سليمان فرنجية للرئاسة وهو ليس في صدد التراجع من دون توفر شروط تكون بمستوى تنازله. ووفق المصادر أبلغ الحزب جهات محلية وإقليمية ودولية ومن بينها القطريين والفرنسيين أنه لا يوافق على جوزف عون للرئاسة، خصوصاً وأنه يُطرح كمرشح توافقي يحظى بتأييد جهات دولية كخيار للتسوية. وقرار الحزب ينطلق من أن تجربة الرئيس السابق ميشال سليمان قد تتكرر مع عون. موقف الحزب يرضي التيار الوطني الحر كنقطة تقاطع لإعادة مد الجسور بين الطرفين وان كانت عقدة فرنجية لا تزال مستمرة. لكن مسارعته برفض قائد الجيش ليست نهائية، فالتسوية على اسمه لها شروط مرتبطة بالخارج، خصوصاً وأن الحزب يعلم عن دور قد تضطلع به قطر في الشأن اللبناني نظراً لصلاتها بالقوى الإقليمية والدولية، وهي قد تروج اسم جوزف عون كمرشح توافقي، وهو يحظى بمباركة الفرنسيين ودعم الاميركيين، وإن كانت تسوية من هذا النوع يلزمها توفير أرضية داخلية لحسم الموضوع.
اللافت أن مواقف "حزب الله" الاخيرة تدعو إلى التوافق، ومن بينها تصريح نعيم قاسم حول أولوية انتخاب الرئيس، لكنها لا تعكس وجهة سياسية جديدة له، فالحزب يريد الخروج من حالة العزل والاستنزاف السياسي وتوجيه الانظار إلى سلاحه ورفع الاتهامات عن عرقلته انجاز انتخاب الرئيس خصوصاً وأنه لم يستطع حتى الآن إعادة لملمة محوره الممانع وإقناع العونيين بفرنجية كمرشح وحيد للرئاسة يحظى بقبول عربي ودولي وأيضاً في إمكانه ترويج نفسه في البيئات الطائفية اللبنانية. كما فشل حتى الآن في تقديم صورة مغايرة في علاقاته العربية والخليجية والدولية، علماً أن جلسة حكومة تصريف الاعمال الاخيرة، وفق مصدر سياسي متابع، كان الفوزالرئيسي فيها لـ"حزب الله"، طالما انه يسعى إلى تفعيل عملها لحسابات مرتبطة بوضعه وكي لا يكون في الواجهة، وفي الوقت نفسه هي رسالة إلى التيار الوطني الحر بأن الطموحات الرئاسية هي في اتجاه آخر.
يتمدد الصراع حول الاستحقاق الرئاسي في اتجاهات مختلفة. تحاول الاطراف تحسين مواقعها وتعديل التوازنات. ولا تنفصل لقاءات رئيس حكومة تصريف الاعمال في السعودية عن الاستحقاقات. فميقاتي يحاول تعزيز وضعه عربياً وداخلياً ودوره ضمن البيئة السنية وتعزيز فاعليتها في حسم الاستحقاق. هناك محاولة لاستعادة الدور وتجاوز مرحلة الإضعاف التي تكرست خلال عهد ميشال عون، وفي المقابل تعزيز الثقل أمام "حزب الله" وهيمنته الداخلية، ومحاولته إثبات أنه الرئيس القادر على تنفيذ الورقة الخليجية التي سلمها الكويتيون للبنان قبل أشهر لعودة العلاقات إلى طبيعتها. ولذا تعود فكرة التسوية حول انتخاب رئيس للجمهورية بالتوازي مع الاتفاق على رئيس للحكومة خصوصاً وأنه يحظى بدعم فرنسي لإعادة تكليفه بالرئاسة الثالثة، فيما لا يزال الموقف السعودي على حاله برفضه حكومة تحت وصاية "حزب الله"، وإن كانت بدأت تهتم بالشأن اللبناني مجدداً وتطرح تلازم انتخاب رئيس الجمهورية واختيار رئيس الحكومة معاً في تسوية شاملة.
الخلافات السياسية الداخلية وعدم نضوج وجهة إقليمية دولية للضغط نحو تسوية شاملة للوضع اللبناني، تؤكد أن الفراغ الرئاسي سيطول، وعليه تتمترس القوى الداخلية ضمن بيئاتها، إلى حين تكريس توازنات جديدة وأدوار مختلفة، الثابت فيها أن هيمنة "حزب الله" بفائض قوته هي المحرك غير المباشر لاي تطور داخلي ومنها الحكومة. وعليه قد يمتد الوضع الحالي بمزيد من التفكك إلى أكثر من سنة.