تأكيد فوكوياما لهزيمة روسيا... واقع أم تمنّيات شخصية؟

03 كانون الأول 2022 10:11:29

كانت روسيا عبر التاريخ تنكفئ أو تتمدّد وفقاً للظروف الدولية، واستناداً إلى موازين القوى. هزائمها العسكرية كانت محدودة، كما حصل مع اليابان عام 1905 وفي أفغانستان عام 1988، لكن انتصاراتها كانت كبيرة ومدوّية. فهي غيرت مجرى التاريخ مرتين؛ في الأولى هزمت جيوش نابليون عام 1812، وفي الثانية هزمت هتلر العام 1943 في ستالينغراد، وتسببت ببدء تقهقر جيشه في الحرب العالمية الثانية. ويساعد روسيا في ذلك مساحتها الجغرافية المترامية، وقدرتها على تلافي أي حصار غذائي، وهي وُصفت عبر التاريخ أنها زعيمة قوى البر "التيلوروكراتيا" وبريطانيا زعيمة قوى البحر "التالاسوكراتيا" والولايات المتحدة الأميركية زعيمة قوى الجو "الإيروكراتيا".
يجهد المفكر الأميركي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما في تكرار تغريداته ومقالاته حول الحرب الروسية - الأوكرانية، وهو يؤكد على نهايتها بهزيمة روسيا، وبانتصار الفكرة الليبرالية الغربية، من خلال نفاذ النظام الديموقراطي الأوكراني من التدمير على يد زعماء الكرملين – وفي مقدمهم الرئيس فلاديمير بوتين – الذين أخذوا القرار بالحرب، لأنهم لا يتحملون وجود نظام متحرر على حدودهم الغربية، وفقاً لتوصيف فوكوياما.
 
تحليلات فوكوياما المُتجددة؛ أقرب الى التبصير المبني على الرغبة، ذلك أن الفيلسوف الأميركي لا يخفي مشاعر الضغينة التي يكنها للتجارب العقائدية والسياسية التي نمت في الشرق، وتحديداً في روسيا والصين، ويعتبرها "تجارب مبنية على القمع والأُحادية، في وقتٍ تجاوز العالم مثل هذه الافتراضات الوهمية الموقتة وانطلق نحو أحادية ليبرالية ديموقراطية، لها حتميتها المؤكدة والتي لا تقاوم".
 
فوكوياما كأنه يرد على نفسه، عندما يتحدث عن الاختلال الذي لا يزال قائماً في الديموقراطيات الغربية، عندما يتحدث في كتابه "العشائرية الجديدة وأزمة الديموقراطية" -الصادر عام 2018- عن حالات التفرقة العرقية والعنصرية التي لا تزال قائمة بالفعل في المجتمع الأميركي، برغم أن القوانين تعامل الجميع بالمساواة. وانطلاقاً من انحيازه للمحافظين الجُدد، يهاجم فوكوياما الحزب الديموقراطي الأميركي، ويتهمه باستغلال الأقليات من ملوّني البشرة من الأميركيين لأسباب انتخابية، ما يعني أن المساواة بين المواطنين لا تطبق بالفعل، وهناك استغلال لأصحاب الهويات المختلفة في الولايات المتحدة، ويحاول بعضهم عزل هؤلاء عن الحياة السياسية، كما يستفيد الحزب الديموقراطي من دغدغة مشاعرهم الإثنية، بدل أن يركز على القضايا العقائدية والاقتصادية، كما يقول. وفي إشارة فوكوياما هذه؛ تأكيد على خلل يُصيب النظرية الليبرالية، أو الديموقراطية بالمفهوم الغربي.
 
وسبق لفوكوياما أن اعتقد في كتابه الشهير "نهاية التاريخ" الذي نشر في العام 1992، أن التاريخ انتهى في عام 1989 عندما سقط الاتحاد السوفياتي، قائلاً إن الرأسمالية انتصرت الى الأبد، ولم يعُد هناك ما يمكن أن يشكل خطراً على التجربة الغربية. كما أنه أكد سقوط الصراع الإيديولوجي بين المكوّنات البشرية في العالم، وأصبح الأمر مقتصراً على صراعات إثنية وتنافس اقتصادي ومالي لا غير.
 
لا يمكن الاستخفاف بالرؤى التي يُطلقها فوكوياما، وهناك العديد من الجامعات في العالم تُدرِّس كتبه، خصوصاً في المواد التي تتعلق بالعلوم السياسية وفي الاقتصاد العالمي، وقد اشتهر بكونه أهم أساتذة العلاقات الدولية في الولايات المتحدة. وفي المقابل تأكد أن مقاربات فوكوياما تنطلق من انحياز سياسي واضح للفكر الغربي، وهو يخدم هذا الفكر الليبرالي من دون أن يعير أي اهتمام لتجارب الآخرين الاقتصادية السياسية، بما في ذلك نجاح تجربة الصين في تحفيز النمو الصناعي، والتي أنقذت مئات الملايين من الصينيين من خطر الجوع، بصرف النظر عن الإخفاقات التي تسببت بها. وعلى العكس من ذلك، فهو يعتبر أن التعاون الروسي – الصيني يمكن أن يشكل خطراً وازناً على الديموقراطية.
 
نقاشات منتدى "تحالف الحضارات" الذي انعقد في مدينة فاس المغربية بين 21 و23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، خرجت بانطباع يخالف وجهة نظر فوكوياما، بحيث حصل اتفاق على أن التنوع موجود بين المكونات السياسية والبشرية في العالم، ولن ينتهي. والمطلوب تقليص الفروق بين مضمون اللوائح والتشريعات التي تضبط الانفلاش والاختلاف، من دون أن يتناول ذلك إلغاء التقاليد والأعراف المحلية التي تغني التنوع الثقافي، ولا تشكل ضرراً على مستقبل البشرية.
 
يمكن الاتفاق مع فرنسيس فوكوياما على أن مباشرة العمليات الحربية من قبل روسيا ضد أوكرانيا؛ كانت خطأً جسيماً، أو أنها لم تستند الى مبررات كافية وكانت متسرِّعة، ولكن لا يمكن موافقته على اعتبار "أن الحرب الروسية لم تكُن بسبب الخوف من توسُّع حلف شمال الأطلسي نحو الشرق، بل هي حرب شنها غلاة الأحادية والشعبوية والتسلط ضد الديموقراطية، وخوفاً من تمدُّد الحرية بصورتها الحديثة خلف أسوار الدول المغلقة، وفي مقدمهم روسيا"، وهذه الرؤية مبالغٌ فيها بطبيعة الحال، وتخفي وجهة نظر عقائدية خاصة، أكثر مما تنمُّ عن تحليل واقعي متجرِّد.
 
وأكثر من كل ذلك؛ فقد توقع فوكوياما انهياراً كاملاً لروسيا كنتيجة من نتائج حربها في أوكرانيا، لكن ذلك يبدو بعيد المنال، ولا يوجد دليل واحد على إمكان حصوله في المستقبل القريب، وعلى العكس من ذلك؛ من الواضح أن روسيا لم تستخدم كل أوراق القوة التي تمتلكها، وهي تساير دبلوماسياً، وتفاوض على بعض الملفات، وتبدي رغبة بتسريع الوصول الى تسوية تنهي الحرب، ولم يتبين حتى الآن أنها تواجه أوضاعاً داخلية صعبة.