Advertise here

تنظيم الخلافات بين القوى الكبرى وانفراجات في العلاقات الدولية

24 تشرين الثاني 2022 09:33:08

على الرغم من ارتفاع منسوب التوتر في أوكرانيا، لا سيما بعد تفلُّت صواريخ وانفجارها فوق الأراضي البولندية، تتجه الأوضاع نحو هدنة، أو تسوية، أكثر مما تتجه نحو التأزُّم أو الانفجار الشامل. وزيادة وتيرة القصف الصاروخي الروسي العنيف على المدن والمراكز الحساسة في أوكرانيا؛ لا تعني رغبة بتوسيع دائرة الحرب، بقدر ما تعني التغطية على الإخفاق الروسي الناتج من الانسحاب من مدينة خيرسون الاستراتيجية في الجنوب، وهذا الانسحاب سبب انكشافاً كبيراً للقوات الروسية، وأدى الى تراجع معنويات القيادات العسكرية الميدانية.

 

لكن واقعة الانسحاب من خيرسون؛ ليست هزيمة بالمعنى العسكري، فحسابات الميدان تختلف عن حسابات الرؤى السياسية، ذلك أن التراجع الى خلف نهر دنيبرو، وترك مناطق الاكتظاظ السكاني، يعتبر تدبيراً ميدانياً ناجعاً بالنسبة إلى قادة الجيش الروسي، لأنه يخلق خط دفاع مائياً طبيعياً أمام القوات الروسية، يتراوح عرضه بين 400 متر في أماكن و2000 متر في أماكن أخرى، ويبعد قواتهم عن الاستنزاف الذي يطاولها بواسطة الأسلحة الغربية البالغة الدقة التي تسلمتها القوات الأوكرانية من دول "الناتو"، لأن الوقائع أثبتت أن الأسلحة الخفيفة والمتوسطة الغربية، متفوقة بأضعاف عن مثيلاتها الشرقية.

 

الانسحاب من خيرسون جاء بعد اتصالات متكررة حصلت بين رئيس الأركان الروسي فاليري غيراسيموف ومستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان. وأكد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ أن التواصل قائم مع موسكو طيلة الوقت، والأخيرة سارعت الى نفي ضرب الأراضي البولندية لتفادي أي توتر مع الأطلسي، وهي تعرف أن جنوداً بولنديين مدربين على الأسلحة الغربية الحديثة يشاركون في القتال الى جانب الجيش الأوكراني. والمعلومات المسرَّبة من جهات متابعة تؤكد أن تراجعات روسيا، تهدف الى التمهيد لحل النزاع بالطرق السلمية، من دون أن يحصل أي هزيمة لأي من الطرفين المتقابلين، بل على العكس من ذلك، فإن الغرب يطالب بإعطاء دفعة معنوية للقيادة الأوكرانية لتتمكن من تسويق أي تسوية مع الجانب الروسي أمام الرأي العام الداخلي.

 

وما يؤكد مسار الانفراج المنتظر، قول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إن التسوية السلمية للنزاع، لن تكون على حساب أي طرف، ولن يكون فيها أي خاسر. كما أن البيان الختامي لقمة العشرين (أكبر 20 دولة تملك أكبر اقتصادات في العالم) التي انعقدت في جزيرة بالي في إندونيسيا، أكد على ضرورة إنهاء الحرب في أوكرانيا، لأنها تقوَّض الاقتصاد العالمي. ووزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي مثل بلاده في القمة، انسحب باكراً من دون أن يسجل اعتراضاً صريحاً على المقررات، وبعضها لم تكُن في صالح موسكو، ومنها خصوصاً الاجماع على مناهضة أي تهديد باستخدام السلاح النووي. كما أن بيان القمة تبنّى التوصيفات ذاتها لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي صدر في 12 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وهو القرار الذي دان احتلال روسيا لأراضي أوكرانية، وطالبها بالإنسحاب الفوري منها. والصين صديقة روسيا، لم تأخذ موقفاً متشدداً الى جانبها، وهي لم تعترض على التعابير التي لم تكُن في صالح روسيا في البيان الختامي لقمة بالي.

 

غالبية المداخلات التي ألقيت في قمة بالي؛ كانت إيجابية، وتتضمن رغبة واضحة من قبل الجميع لخلق أجواء من الإسترخاء على المستوى الدولي، بعد أن زاد منسوب التوتر في الأشهر الماضية الى حدودٍ خطيرة. والقمة التي عقدت بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جينبينغ أضفت تفاؤلاً كبيراً، لا سيما بعد تأكيد بايدن أن لا حرب باردة جديدة في العالم، وإعلان جينبينغ أن تصحيحاً حصل للمسار الغامض الذي كان قائماً في العلاقات بين بكين وواشنطن. كما أن اجتماع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن مع نظيره الصيني دي فنغي على هامش مؤتمر منظمة (آسيان) كان ودياً، برغم التصريحات المتعارضة والعالية النبرة التي صدرت عن الجهتين حول الملف التايواني.

 

أصحاب رأي، ومتابعون للمباحثات الثنائية التي حصلت في بالي، أكدوا أن انفراجات ستحصل على المستوى الدولي بعد مرحلة غلبت عليها التشنجات الكبيرة. والصين لعبت دوراً محورياً في ترتيب التوافقات التي حدثت، ومنها إقناع روسيا بعدم الانفعال جراء الاستفزازات التي تعرضت لها من قبل عدد كبير من الدول المشاركة في القمة، ومنهم مّن طالب بتعليق عضويتها في المجموعة الى حين "إنهاء عدوانها على أوكرانيا". ولم تتأثر أجواء القمة بإلغاء الاجتماع الذي كان مقرراً بين الرئيس الصيني جينبيغ ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك، وقيل أن الإلغاء لم يحصل على خلفيات تصادمية.

 

يمكن التأكيد أن غالبية الدول الكبرى راغبة في تقليص مساحة الاختلافات، وهي أمام تحدٍ كبير، وتتهيب من خطورة الوضع الذي قد ينزلق الى حرب كونية في أية لحظة. ولا تبدو روسيا بعيدة من هذا السياق، كونها تشعر ببعض العزلة الناتجة من حصار أدى الى تراجع في حجم حراكها الاقتصادي من جهة، ولأنها غير مستعدة لخوض حرب كونية واسعة من جهة ثانية.