Advertise here

رجا حرب رحل ولم يبدل تبديلاً

22 تشرين الثاني 2022 10:30:00 - آخر تحديث: 26 تشرين الثاني 2022 23:50:57

على الرغم من أن الموت حق وسنة من سنن الشرائع السماوية، لكن لم يخطر ببالي يوماً بأنني ساواجه هذه الحقيقة المرة برحيلك يا ابا حسام، وانت الصديق والاخ والرفيق والقائد الذي تميز على الدوام بالوفاء والاخلاص والحكمة والحزم. يا عميد العمداء، ويا قائداً لم يعرف التعب، يا قائداً ترك بصماته على كل تلة من تلال هذا الجبل الشامخ، يا من صار جزءاً من تاريخ مجيد، وكيف لا، وانت الذي سطرت فيه البطولات والمواقف الجريئة والشجاعة. يا من صار جزءاً من قضية لا تموت، يا من حمل بامانة قضية الدفاع عن الوجود فارتبط اسمه بكل المعارك الاستراتيجية من المتين وعين طورة وعاريا، وصوفر وبحمدون، وتحرير الجبل و6 شباط والشحار واقليم الخروب وسوق الغرب، يا من عرف كيف يحافظ على الثقة المطلقة التي اولاها اياه المعلم والرئيس وليد جنبلاط.

رجا حرب، ماذا اقول فيك وعنك، إذ يستحيل اختصارك في مقال او بضعة جمل وكلمات، وانت الذي شاهد من مواقع قيادية مختلفة إعادة كتابة تاريخ لبنان من فوهات المدافع والدبابات، وانت الذي كتب له أن يكون في قلب المواجهة التي كانت تجري بين مشروع كمال جنبلاط الوطني والمشروع اليميني الذي سعى في ذلك الوقت الى سلخ لبنان عن محيطه العربي. كما كنت الشاهد الامين على حرص المعلم الحفاظ على وحدة الجيش، والذي كان يعتبرها صمام الامان في مواجهة خطط حافظ الاسد للسيطرة على لبنان وتقويض استقلاله وسيادته، فنقلت الرسائل الى من يعنيهم الامر، ونبهت من خطورة الانقسام، ثم عندما خرجت الامور عن السيطرة في آذار 1976، لما تألو جهداً في الحفاظ على الضباط المسيحيين في ثكنة ابلح وغيرها من الثكنات التي وقعت فريسة هذا المخطط. وبعد أن اتممت المهمة وارتاح ضميرك، حزمت حقائبك، ولم تنظر الى الخلف، وادركت أن التحديات الآتية كبيرة وكبيرة، فالتحقت بالقيادة التي أنشأها المعلم في عاليه، لمواجهة ما كان يخطط للبنان عامة والجبل خاصة.

ومن عاليه، انطلقت رحلتك النضالية الى جانب المعلم والمغفور له اللواء شوكت شقير وعدد من الضباط الوطنيين وفي مقدمهم المرحوم المقدم شريف فياض. وعندما تسلمت قيادة قطاع المتن ، ادركت حجم المسؤولية ، فكانت عين على التحضيرات والتطورات الميدانية وعين على السياسة وتوجيهات المعلم. مارست القيادة الميدانية بحكمة وحزم، وقد فهمت بعمق، ماذا تعني سيطرة القوات السورية آنذاك على المتن الاعلى وتجاوز الدفاعات في صوفر وبحمدون. كما فهمت عقم تفكير قادة اليمين عندما رفضوا مساعي المعلم في التوصل الى تسوية سياسية وتحقيق اجماع وطني برفض الدخول العسكري السوري الى لبنان، فكانت المواجهة في المتن وصوفر وبحمدون وكنت احد ابرز قادتها.

شاركت يا ابا حسام مع رفيق دربك المرحوم المقدم شريف فياض وعدد من الضباط الوطنيين في القرار التاريخي الذي اتخذه المعلم بتأسيس جيش التحرير الشعبي لتحقيق استقلالية القرار العسكري وتعزيز القدرات القتالية، وتوليت قيادة كتيبة صوفر في اللواء التنوخي الذي ضم الدفعة الاولى من ضباط ورتباء وجنود جيش التحرير . ولدى عودة المعلم من جولته العربية في خريف العام 1976، كنت اول من التقيته وعرفت منه ان ما كتب قد كتب، وأن مرحلة من التحديات تقضي باعادة تجميع القوات والتمركز في الشوف وانتظار التحولات. وفي يوم الاستشهاد حملت الالم، ورافقت وليد بك من بيروت الى المختارة، وواكبته في اطفاء الحرائق التي اشتعلت، وبقيت عينك على التحقيق الذي كان يواكبه المغفور له المرحوم العميد عصام ابو زكي، علماً أنك كنت تعرف الفاعل من اللحظة الاولى، وسرعان ما ظهرت الادلة وكشفت كل التفاصيل.

وفي اربعين الاستشهاد، وقد صادف الاول من ايار، كنت في مهرجان الاونيسكو  على حيويتك المعهودة مع رفيقيك انور والمقدم وباقي الرفاق، ولاحقاً انطلقت رحلة الخروج من الانكفاء بعد التحولات الاقليمية من كامب ديفيد حتى الاجتياح الاسرائيلي ، وواكبت عن قرب دورات اعداد الضباط في المدارس الحربية للجيش الاحمر، وذلك استعداداً للمواجهة التي سرعان ما فرضت نفسها في حزيران عام 1982، إذ تمكنت قوات العدو الاسرائيلي من اجتياح الجنوب والوصول الى الجبل وفرض الحصار على بيروت ثم دخولها . كنت مميزاً كعادتك في خلية النحل التي واكبت مع الرئيس وليد جنبلاط من المختارة الاحداث الكبيرة التي كانت تتسارع ، وبعد مغادرته الى بيروت، بقيت على تواصل دائم معه ونقلت توجيهاته، وفي احدى الليالي التي كنا نناقش فيها مع الشهيد انور الفطايري في بيتك في السمقانية، افضل الطرق لاخراج القوات اللبنانية من بيت الدين، وعندما بلغ الحماس درجة كبيرة، قلت لي "سنعمل بحزم ،ولكن بهدوء لان الرئيس يريد كسب الوقت للتحضير للمواجهة الكبرى ".

لقد شكلت مع المقدم شريف فياض في تلك المرحلة الثنائي الذي عرف كيف يبني الثقة مع قادة الوحدات والقطاعات الذين تخرجوا من الاتحاد السوفياتي، فكان العمل الاحترافي والمسؤول في تعبئة الموارد للمواجهة، وملاقاة قرار الرئيس بتحرير الجبل عند بدء الانسحاب الاسرائيلي. وجاء سقوط بحمدون في 5 ايلول عام 1983 ، ليكون ثمرة هذا الجهد والتعب والاعداد والتدريب والارادة على القتال، كما جاء ليفتح الطريق نحو تحرير الجبل وانطلاق عملية فك الطوق عن المناصف. وبالتأكيد، لم تضعف عند سقوط الشحار، ولم تسلم بالواقع المرير، وتطلب الامر مرحلة لاستيعاب النتائج، وسرعان ما ادركت  اهمية سباق الوقت بين التحرير والتحضيرات التي يقوم بها الجيش بمساعدة الاميركيين، للانقضاض على قبرشمون وتحقيق التواصل مع قواته في سوق الغرب، بهدف تطويق بيروت والغرب الساحلي. وعندما اقتربت اللحظة السياسية واتخذ الرئيس قرار التحرير، كانت 6 شباط حيث انتقلت الى بيروت بطلب منه، وواكبت من منزل الرئيس بري المفاوضات مع قائد اللواء السادس للانسحاب الى الثكنات والتسليم بالوقائع وميزان القوى الجديد الذي نشأ بعد أن تصدى الحزب وحركة امل لتقدم الجيش واختراق بيروت الغربية، وجرى تحييد قوات اللواء السادس الذي كان ما زال مرتبطاً بقيادة اليرزة وبعبدا . معركة تحرير الشحار، التي توليت قياداتها الى جانب المقدم فياض كانت نتائجها بمثابة الفتح المبين، الذي ادى الى تحرير هذه المنطقة العزيزة التي تحتضن مقام السيد عبدالله التنوخي رضي الله عنه وقدس سره، وإلى اسقاط اتفاق 17 آيار، واسس لاحقاً لفتح الطريق الى الجنوب، ورفع المخاطر عن صيدا التي كانت تتعرض للقصف اليومي والتهديد المباشر، وذلك بعد ان تم تحرير الاقليم في 28 نيسان 1985، إذ كنت في مقدمة الصفوف لمواكبة العملية والحرص على تنفيذ توجيهات الرئيس بالحفاظ على المدنيين وعلى دير المخلص ومكتبته.

ثم كانت مواجهة حرب التحرير العبثية ، وكم سخرت من رهانات ميشال عون على هذه الحرب، وانت العارف بشغفه للسلطة وفقر انجازاته العسكرية ، ولكنك تعاملت مع تحدياتها من موقع قيادتك للجيش الشعبي بجدية واحتراف وعزم لا يلين . واذكر عندما  قصف ميشال عون المختارة اعتبرت ذلك خطاً احمر لا يمكن تجاوزه ، وقلت المختارة عزتنا وكرامتنا ومجدنا، واسرعت بالجواب عبر ضربات موجعة من سلاح المدفعية في جيش التحرير الشعبي الذي كان قد امتلك في ذلك الوقت خبرة كبيرة في تحديد الاهداف وتدميرها وتلقين الدروس. وجاءت معركة سوق الغرب في 13 آب 1989، التي كان السباق فيها بين ساعة الصفر ومحاولة الفرنسيين دعوة مجلس الامن للانعقاد واقرار وقف اطلاق النار، وكم من ذكريات حملناها معاً في مرحلة ما قبل المعركة واثنائها ، واهمها ثقل المسؤولية التي حملتها على منكبيك، بدءاً من تنفيذ قرار الرئيس باعداد الخطة ومروراً بادارة العملية ووصولاً الى المسؤولية عن نتائجها.

وكم كان كبيراً وليد جنبلاط عندما قال في 13 آب " انني اتحمل مسؤولية كل قطرة دماء قد سقطت في هذه المعركة". وكم كان عظيماً في الاونيسكو حين قال وانت على فراش الموت، صحيح أن معركة سوق الغرب لم تحقق اهدافها الميدانية ولكنها حققت مبتغاها السياسي وقادت الى الطائف. كم اثلج صدرك هذا الاكلام، وازاح عنك بعضاً من الالام التي كنت تحملها من بعض التحليلات التي كانت تغفل عن قصد او غير قصد، ميزان القوى الذي نشأ بعد هذه المعركة والذي كان من بين العوامل التي قادت الى انعقاد مؤتمر الطائف. وكم كان الالم كبيراً ايضاً، عندما حاول البعض وما يزال ، حصر حرب الجبل بدوافعها المذهبية والطائفية والتقليل من اهمية التضحيات ، فيما كنت تنظر اليها كجزء من الحرب الباردة التي كانت قائمة بين الجبارين، ومن الصراع الاقليمي على دور لبنان وهويته، وبالتاكيد لم تكن لتغفل ابعادها المتمثلة في الصراع على جبل لبنان، ورهانات الفريق اليميني في السيطرة عليه وسلخ لبنان عن محيطه العربي وتقويض دوره في الصراع العربي الاسرائيلي. وجاء 13 تشرين ليؤكد رأيك في "الجنرال"، الذي لم يربح معركة واحدة طوال حياته العسكرية، وبتوجيهات من الرئيس، تصرفت بنبل معروفي ، واسرعت في انقاذ نخبة من الضباط المسيحيين الذين تركهم ميشال عون لقدرهم مهرولاً الى السفارة الفرنسية، اذ تم استضافتهم في المختارة لحين تكون المناخ السياسي والامني لعودتهم الى المؤسسة العسكرية. 

رجا حرب، بعد ان وضعت الحرب اوزارها وعدت الى المؤسسة العسكرية لفترة قصيرة، ايقنت أن الوقت قد حان لاستراحة المقاتل، فالقيت بالسلاح والرتب والمناصب جانباً ، وانكفأت الى مزرعتك التي احببت، بما يشبه "الهبوط الامن". وبقيت المختارة قبلتك السياسية، وعندما اتت الساعة، وبعد اطمئنانك إلى أن الجبل والدار التي حافظت على الوجود هما بامان، وان الرفيق تيمور حمل الشعلة وتنكب القضية، رحلت بهدوء وسلام. فالف تحية لروحك الطاهرة من رفاقك في الجيش الشعبي، والف تحية لروح كبير الشهداء المعلم كمال جنبلاط، ولارواح انور والمقدم وابو جمال وسامي وحسان، والى كل الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن وجودنا. إلى جنات الخلد يا ابا حسام، انت من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يبدلوا تبديلا.