Advertise here

الشهيد حسن خالد... مفتي "الطائف"

21 تشرين الثاني 2022 07:45:00

الذكرى الثالثة والثلاثون لاقرار اتفاق الطائف لا تزال تتسع لمساحة واسعة لمزيد من الاستحضار والعودة بالزمن إلى التضحيات الكبرى التي ساهمت في إنضاج الظروف المحلية والخارجية، لتأسيس الصيغة الجديدة للنظام اللبناني عبر إتفاق الطائف، برعاية عربية دولية متوازنة، وبمبادرة ودفع من الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

ومن هذه التضحيات الكبرى التي دفع لبنان ثمناً لها، اغتيال المفتي الشهيد حسن خالد، الذي بمواقفه وثوابته الوطنية والعروبية الجامعة والجريئة والمتقدّمة، مهّد وأسّس لما تضمنته وثيقة الاتفاق الوطني من بنود ميثاقية وإصلاحية، حسمت بصورة نهائية وقاطعة العديد من الاشكاليات الخلافية الجذرية بين المكونات اللبنانية، التي ترجمت حرباً أهلية طاحنة، كادت أن تطيح بلبنان الدولة والكيان.

فالمفتي الشهيد، كان يمثّل خط الوحدة والشراكة الوطنية، والعيش المشترك، والسلم الأهلي، والانفتاح والتلاقي والحوار، والسيادة والاستقلال، الرافض لكلّ أشكال الهيمنة والتبعيّة.

لذلك، أدرك المفتي الشهيد الخطر الداهم على لبنان، والمصدر الحقيقي لهذا الخطر، والدور الشيطاني الذي كانت تؤديه أدواته في تأجيج الحروب المتنقلة بين المناطق كافة، تمهيداً لتغيير وجهة الوطن ووجهه، وسلبه سيادته وإستقلاله، وتحويله إلى مجرد مقاطعة تابعة تحت الوصاية، تُحكم عن بُعد!.

وما زاد من قناعته بضرورة وحتمية الوقوف والتصدي بصلابة وإيمان الرجال الرجال لكلّ المشاريع والمؤمرات المعادية للبنان الوطن والدولة، تغييب القامات الوطنية إمّا تصفية واغتيالاً، وإمّا إبعاداً، لتفريغ الساحة اللبنانيّة منها، واستبدالها بأمراء الحرب وبمنظومة القتل والاجرام الدموي، ليتحكّموا بمقدرات الوطن، وجرّه إلى الهيمنة والتبعية.

ومن موقعه الوطني الجامع، كمفتٍ للجمهورية اللبنانية، وليس للطائفة السّنيّة فحسب، عقد العزم على أخذ المبادرة بالوقوف سداً منيعاً في وجه ما كان يحاك للبنان، غير آبه لكلّ التهديدات والنصائح التي تلقاها من الأعداء والأصدقاء، بحيث كان يجيب دوماً أنه يريد أن يقابل وجه ربّه بقلب سليم.

فحوّل المفتي الشهيد من خلال دوره ومواقفه مقام دار الافتاء إلى دار وطنية جامعة، بعيداً عن التقوقع الطائفي والمذهبي، في أصعب ظروف الحرب والتقاتل الطائفي، إيماناً منه بحتمية إستعادة لبنان الواحد بجناحيه الاسلامي والمسيحي، ضمن وطن واحد يقوم على مرتكزات الوحدة الوطنية والعيش المشترك والانتماء العربي.

وقد خرج لقاء دار الفتوى بعشر ثوابت وطنية، شكّلت الاطار العام الجامع لمشروع إنقاذي للبنان، في ظل الظرف العصيب الذي يجتازه، والذي جعل كلّ لبناني يشعر فيه بالخطر الداهم على وطنه ووحدة أرضه وشعبه، وجوداً ومصيراً، من جراء تفاقم حدة الانقسامات بين فئات الشعب الواحد.

وجاء في هذه الثوابت:

أولاً: لبنان وطن نهائي بحدوده الحاضرة المعترف بها دولياً، سيداً، حراً، مستقلاً، عربياً في انتمائه وواقعه، منفتحاً على العالم وهو لجميع أبنائه، لهم عليه واجب الولاء الكامل ولهم عليه حق الرعاية الكاملة والمساواة.

ثانياً: لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريّات العامّة وضمانها، وعلى مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين جميع اللبنانيين من دون تمييز.

ثالثاً: يلتزم لبنان النظام الاقتصادي الحر.

رابعاً: إعطاء القضايا الاجتماعية حقها الكامل في العناية بما يؤدي إلى إلغاء التفاوت بين المناطق والفئات اللبنانية ومعالجة المعضلات الناتجة من الأزمة.

خامساً: إن التمسّك بلبنان متلازم مع التمسّك بوحدته الكاملة غير المنقوصة، أرضاً وشعباً ومؤسسات.

سادساً: رفض أيّ شكل من أشكال اللامركزية السياسية سواء طرحت في صيغة الكونفيدرالية أو الفيدرالية، أو الاتحاد بين ولايات، أو كانتونات، أو غيرها من أشكال الكيانات الذاتية، لأنّ كلّ هذه الطروحات وأمثالها تضع لبنان على شفير التقسيم والتفتيت، وكلاهما مرفوض رفضاً مطلقاً، بينما نرحّب باللامركزية الادارية.

سابعاً: إلغاء الطائفية السياسية بكلّ أوجهها في جميع مرافق الدولة ومؤسساتها.

ثامناً: الرفض القاطع لكلّ ما يتعارض مع الشرعية من مظاهر وممارسات بما في ذلك محاولات الهيمنة الحزبية أو الفئوية، وكذلك استمرار وجود الميليشيات والتنظيمات المسلحة ووسائل الاعلام غير الشرعية والجبايات المالية غير المشروعة.

تاسعاً: الاقرار بحق المهجرين منذ بداية أحداث 1975 بالعودة إلى المساكن، أو المناطق التي هجروا منها تبعاً لمبدأ حقّ كل مواطن بالاقامة في أيّ مكان في وطنه لبنان.

عاشراً: العمل على إنهاء الاحتلال الاسرائيلي وتأمين انسحاب جميع القوات غير اللبنانية من لبنان، وفقاً لقرارات مجلس الأمن 425 و426 و508 و509 و520، ورفض أيّة محاولة لفرض معاهدة صلح أو تطبيع علاقات مع إسرائيل.

وقرّر المسلمون من خلال هذه الثوابت الاعتراف بلبنان وطناً نهائياً لجميع بنيه، وأكدوا على ثوابت الوفاق ورفعوا ميثاق العيش المشترك، من خلال قيام سلطة شراكة حقيقية لا غبن فيها ولا حرمان لأحد على حساب أحد، ولا غلبة وتسلط لأحد على أحد، ولا إستقواء لأحد بتوازن إقليمي - دولي ضد غيره.

كما حسمت الثوابت رفض المسلمين تحقيق الذاتية الاسلامية على حساب الذاتية الوطنية - اللبنانية، مؤكدة أنّ المسلمين اللبنانيين يريدون تصحيح الوضع اللبناني في مساره التاريخي لأجل تحقيق الذاتية الوطنية الصادقة.

بناءً عليه، يمكن التأكيد أنّ هذه الثوابت العشر شكّلت المنطلق الأساس لاتفاق الطائف، وبالتالي عبّدت الطريق أمامه وهيّأت الأرضية له، بحيث يكفي التدقيق ببنود ذلك الاتفاق حتى يتأكد بوضوح أنّ روحيته ومفاهيمه الوطنية وضعت وفقاً لما جاء في ثوابت دار الافتاء، مما يؤكّد بلا شكّ، أن المفتي الشهيد حسن خالد، استحق بكلّ وطنية لقب "مفتي الطائف" حتى قبل الدعوة السعودية الى إقراره، وربما هذا ما جعله يدفع حياته ثمناً له، ليكون إضافة إلى "مفتي الطائف" شهيداً لأجله.