Advertise here

رجا حرب ... حكاية شجاعة وإخلاص حتى الموت

18 تشرين الثاني 2022 12:18:52 - آخر تحديث: 26 تشرين الثاني 2022 23:50:19

لم يكُن أمام المناضل العميد رجا حرب أية حدود تفصله عن قيم الإخلاص والشجاعة. فمحبته للمختارة وقادتها فطرية لا تتبدل مع المواقف أو مع الزمان. وشجاعته في مواجهة الصعاب لا تقيّدها موازين القوى، ولا عتاد المعركة، حتى اللحظات الأخيرة من حياته الصاخبة.  كان هادئاً في استعراض بعض المحطات الوازنة. حدّثنا عن شوقٍ دفين لزيارة الشام إذا سمحت الظروف وتبدّلت الخارطة، أو إذا عادت الشام إلى ما نتمناه لها.

كما الوردة المزروعة في حوض القذيفة النحاسية الفارغة عند زاوية البيت الصخري الجميل، يبدو رجا حرب كومضة زنبقٍ عتيق، مُشعةٍ في زاوية حقبةٍ مهمة من التاريخ، لا يخفت بريقها ولا تشيخ، لا في الصيف ولا في الشتاء، ولا في الليل ولا في النهار، دائماً تأخذك إلى ذكرياتٍ فيها قساوةٌ وشجون، وفيها صفحاتٍ مشرقة وأمجاد أقوى من أن يمحيها الزمن.

قلّما حصل أنّ قائداً عسكرياً جمع بين انضباط المهنة والإحتراف وبين الحسابات الوطنية والعقائدية كما حصل مع رجا حرب، فقد عايش القضية في مراحلها المختلفة منذ أن كان ملازماً في الجيش اللبناني إلى أن أصبح عميداً متقدماً، له من الرصيد ما يطمح إليه أيُ مجاهدٍ صنديد. ولكلٍ من ألقابهٍ العسكرية المختلفة حكاية مطبوعة في ذاكرة رفاقه وأصدقائه ومحبيه وأخصامه في آنٍ واحد.

 فملازمٌ مع المُعلم الشهيد، وأولٌ عندما لازم القائد الوليد في أصعب رحلات حياته من بيروت إلى المختارة في 16 آذار 1977، عندما بلغ الغدر الزبى، وهاجت المشاعر إلى حدود السماء. ونقيباً مكلّفاً من الرئيس، يبحث عن مساكنة مع " قوات الردع العربية" أو "قوات الوصاية"، ورائداً يعرفه أهل الجبل ووادي التيم وبيروت، يؤسّس لمرحلةٍ جديدة من المواجهة للعدو الإسرائيلي وأدواته، وبالتنسيق مع "الوصاية الحليفة" وفقاً لمقاربة تفرض على النجباء تناسي الخصومة عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الأرض والعرض والعروبة. ومقدّماً إلى جانب المقدّم وأنور وعلاء وغيرهم، يبحثون عن تأطير الهواة من الأبطال الذين أدهشوا العالم بشجاعتهم في صفوف جيش التحرير الشعبي.
 أما مسيرته كعقيدٍ وعميد فكانت وبالاً على أخصام الأمس، وتواضعاً رفيع المستوى بين الرفاق والحلفاء، مزجت بين الأدوار العسكرية والسياسية فتمكّن بتوجيهات القائد من إدخال مناضلي الحرب في صفوف جيش السلام اللبناني الجديد.

قبل أسبوعين من الرحيل - وكان شاحب الجسد ومتألق الذاكرة، وجياش العاطفة - ذكَّرنا بيوم مرافقته في 11 آب 1989 لزيارة بعض القيادات العسكرية والسياسية في دمشق، ومنهم الكبير الراحل جورج حبش، لإطلاعهم على خطة تحرير سوق الغرب في 13 آب، وهي البلدة الوادعة بأهلها وبموقعها، ولكنها كانت في ذلك الحين رهينة بيد غلاة التطرف والفئوية الذين يمنعون الحلول، ويعطّلون الدولة. وكانت توجيهات الرئيس وليد جنبلاط تشدِّد على اعتبار تلك المعركة مناسبةً لتثبيت عروبة لبنان، ولحظةً لتأكيد هزيمة المشروع الإسرائيلي، وللدخول في مسار السلم الذي انتظرته البلاد طيلة خمسة عشر عاماً، وهكذا كان. فدخل لبنان منذ تلك المعركة في استقرارٍ أنهى الحرب، وكان اتفاق الطائف "العربي" الذي أمّن توازناً مرحلياً، وأرسى دستوراً معتدلاً جديداً، لم نعرف تطبيقه على ما يجب حتى الآن.

كما كنتَ كبيراً أيها العميد الراحل، في جوابك "بيأمر الرئيس، ولكن الدعوة للقدّاس مشبوهة" عندما استعرضنا تفصيلات أحداث يوم الغدر الكبير في 16 آذار 1977، وما رافقه من اعتداءات - رعاها الجناة ذاتهم ضد أهلنا من المسيحيين الأبرياء في الجبل - وذلك بطلبٍ من الرئيس وليد جنبلاط، كي تكون المعلومات دقيقة، وفيها جواباً ناجعاً على ادّعاءات مغلوطة كانت وراء الدعوة الغريبة لقداس " التوبة والمغفرة" في 23 آذار 2019 في دير القمر، والذي أراده حديثو النعمة والسلطة، بحجة أنهم لم يكونوا مشاركين في المصالحة التاريخية التي حصلت في 4 آب 2001 بالمختارة. وكانت كلمة الرئيس قاطعة في أن مآسي الجبل لن تتكرر، بينما عاد النائب جبران باسيل في كلمته إلى نكئ جراح الماضي وصولاً الى فتنة العام 1860.  
 
رغم أن خسارتك ثقيلة وقاسية في هذه اللحظة السياسية الصعبة من حياة الوطن، هنيئاً لك أيها العميد الراحل، جَمعُكَ هذا الكمّ الكبير من صفحات المجد في محفظة حياتك الحافلة.

 سنفتقدك قيمةً وطنيةً تقدميةً، عنواناً للإخلاص والتضحية، مدرسةً في التواضع والصبر والثبات.


عزاؤنا ببقاء طيفك في مسيرة الوطنيين والتقدميين الإشتراكيين، وفيها حسامك ورولا وجاد وأسامة، وزوجتك الوفيّة مي، وهذا الجمع الواسع من الرفاق والأصدقاء والشوفيين وأهالي غريفة النجباء.

رحمك الله.