Advertise here

“عن ثورات ليست تمضي": قراءة في كتاب الأب غي سركيس

18 تشرين الثاني 2022 09:35:26 - آخر تحديث: 18 تشرين الثاني 2022 09:36:31

أسوةً بكتبه الأخرى، يحتوي الكتاب الجديد للأب غي سركيس على كم هائل من المعلومات التي يحبكها المؤلف بكثير من الدقة والترابط والتسلسل التاريخي والزمني، والأهم، المنطقي. يحمل الكتاب عنوان: "عن ثورات ليست تمضي"، وهو يضيء على مسارات تاريخيّة وبشريّة وتحولات كبرى مصنفاً إيّاها في سياقات متناغمة تتيح للقارىء إكتساب المعرفة في التاريخ والفلسفة والدين والمعرفة والعلوم وسواها من المجالات. عمليّاً، يكتب المؤلف قراءة فلسفيّة للتاريخ.
 

وإذا كانت فصول الكتاب المتعددة مسارات الثورات الزراعيّة والفلسفيّة والعلميّة والصناعيّة وحقوق الإنسان وقضايا علم النفس والتحليل النفسي وإنهاء الاستعمار وصولاً إلى الذكاء الإصطناعي؛ فإن الفصل الأول التمهيدي بعنوان: "الثورات: محطات محوريّة في تاريخ البشر" ينطوي على أهميّة خاصة لا سيّما أنه يحاول جاداً تقديم إجابات واضحة لإشكاليّات ملتبسة تتصل بتعريف الثورة وتمييزها عن سائر التحركات الشعبيّة الإحتجاجيّة، من جهة؛ وبينها وبين الثورات الكبرى التي غيّرت مسارات التاريخ في المجالات غير السياسيّة وهي كثيرة وعديدة ومتنوعة تبلورت على مدى القرون وأدّت إلى تغيير الواقع القائم على الكرة الأرضيّة برمتها. 


ولكن، بالرغم من أهميّة التشريح العلمي والنظري لفلسفة الثورة ومسبباتها وطرق الوصول إليها التي تناولها الأب سركيس بتعمق وتوسع، فإن الفقرات التي كتبها المؤلف حول "الخوف من التغيير" تسلط الضوء على المصاعب السياسيّة والإجتماعيّة التي غالباً ما تقف حائلاً أمام إحداث التغيير المجتمعي.
الرومان، وفق المؤلف، حرّموا الإعتراض على مقدسات ثلاث: التقليد العريق، هرميّة السلطة، وديانة الأجداد. كما يستشهد الأب سركيس بأقوال جورج برنارد شو وأقوال الأديب الفرنسي أنطوان فورتيير الذي وضع قاموساً عرّف فيه التغيير بأنه مرادف للإنحطاط. 


ويختصر الخوف المجتمعي الجماعي من التغيير أو السلوك العدائي الفردي تجاه بالقول: "لا يزال أغلب المتسلطين في الشؤون السياسيّة أو الدينيّة يصنّفون كل فكر أو تحرّك جديد ضمن خانة الأمور المكروهة (...) وهم يحبّذون الإصلاحات الشكليّة والمنظورة الفارغة من كل مضمون لأنها لا تقلق إطمئنانهم ولا تتوعد مكانتهم الرفيعة". (ص 8).

ويعتبر المؤلف أن تشويه مفهوم الثورة يبدأ بحصرها في المجال السياسي متسائلاً عن "التغيرات التي تحققت في الحقول العلميّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة وشكّلت منعطفاً في التاريخ البشري"، مرتكزاً إلى مقولة العالم الفرنسي غوستاف لوبون بأن "الثورات في العلوم أكثر فعاليّة من الثورات في السياسة لأنها تفضي إلى نتائج جذريّة بعيدة المدى". (ص 11). 

ولعل هذه الفكرة، رغم أحقيتها، تحتمل بعض النقاش ليس من زاوية التشكيك بصحتها خصوصاً أن ثمّة ثورات عمليّة كبرى غيّرت طريقة الحياة المجتمعيّة والبشريّة؛ إنما من زاوية تقدّم السياسة على سواها من المجالات ليس من حيثيّات تكوينها إنما من زاوية "سطوتها" على سائر المجالات الأخرى قياساً إلى حجم تأثيرها، السلبي والإيجابي، على مختلف قطاعات الحياة الوطنيّة أو الإجتماعيّة.


على سبيل المثال، إذا كان الباحثون ينتمون إلى دولة تسلطيّة أو ديكتاتوريّة لا تؤمن بأهمية البحث العلمي ولا تكترث، أو لا تسمح، لإقامة المناخات الملائمة للعمل البحثي، فيصبح التأثير السياسي (السلبي بطبيعة الحال) كبيراً على القطاعات الأخرى. وحتى لو لم تكن الدولة قمعيّة بالضرورة، إنما كانت دولة متعثرة وفاشلة، فبطبيعة الحال لا يمكن تصوّر حدوث "ثورات عمليّة" في مناخاتٍ كهذه. 


هل هذا يعني الركون إلى فكرة أحقيّة التركيز الحصري على الثورات السياسيّة دون سواها؟ طبعاً، كلا. ولكن، في ظل الواقع السياسي الدولي ودور الإعلام، تبرز الحاجة إلى مضاعفة الجهود لتفريع الإهتمام نحو المجالات المنسيّة أو المغمورة و إيلائها الاهتمام التي تستحق وكتاب الدكتور غي سركيس يصب في هذا الإطار. 


ومن الأفكار الهامة أيضاً التي يتناولها الكتاب هو سعي الباحث لإعادة تركيز مفهوم الثورة لناحية تمييزها عن التغيير الفجائي أو الإنتفاضة أو الإنقلاب أو التمرّد، مذكراً بتعريفاتٍ متنوعة لمفكرين عن الثورة من أبرزهم الكاتب الشيوعي الليتواني شارل رابوبور والمفكر السياسي الألماني كارل فردريخ والمؤرخ الأميركي مارتن ماليا والفيلسوف الفرنسي إيف شارل زركا. ولعل التعريف الأقرب إلى الواقع هو ذاك الذي كتبه الأول: "الثورة هي تحوّل جذري أو أساسي، وتبدّل في النظام وفي الإدارة وفي المبادىء. الثورة فعل تحرّر إنساني وإجتماعي". (ص 12). بإختصار، الثورة تغيّر مسار البشر. 

أما السؤال الجوهري الذي يحاول الأب سركيس معالجته فهو: هل التحوّل الثوري يعني التقدّم حتماً؟ "الأمر القاطع هو أن التحوّل لا رجعة عنه (...)، يبقى التحوّل واقعاً لا يمكن تجاهله". (ص 16). تُذكّر هذه المقاربة بحالات الإنكار التي تصيب الأفراد والقيادات والمجتمعات جرّاء التغيير ورفضها التعامل معه على أنه بمثابة أمر واقع محتوم، لا بل سعيها إلى تعطيله وإسقاطه وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، الأمر الذي يولّد الصراعات ويفاقم النزاعات.


أخيراً، أقتبس عبارة جميلة كتبها الأب سركيس (ص 53): "سقراط رحل عن هذه الدنيا، متآلفاً مع قناعاته الأخلاقيّة". كم من حاكم ومسؤول بقي في هذه الدنيا مخالفاً قناعاته الأخلاقيّة، إذا كان ثمّة قناعاتٍ مماثلة أساساً!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سركيس، غي الأب الدكتور، "عن ثوراتٍ ليست تمضي: بصمات سقراط، غاليلي، واط، داروين، فرويد، وصحبهم في عالمنا الراهن"، دار خطوط وظلال، عمّان، الطبعة الأولى 2023.