Advertise here

الدراما وتزييف التاريخ

13 تشرين الثاني 2022 07:08:16

الدورة الخامسة من مسلسل «التاج» التي بدأت شبكة «نتفليكس» بثها الأربعاء، تتناول أحداث بريطانيا في عهد الملكة إليزابيث الثانية (1926 - 2022)، والتركيز على فترة رئاستها للدولة والكومونولث (1952 - 2022)، أثارت استهجان ساسة ومؤرخين وصحافيين؛ لتزييفيها التاريخ، وتلفيقها مواقف وأحداثاً كنا شهوداً عليها. كما نسبت أفعالاً وأقوالاً لشخصيات، بعضها فارق الحياة، كأميرة ويلز ديانا (1961 - 1997) ودوق إدنبرة الأمير فيليب (1921 - 2021)، وآخرين أحياء، كانوا شهوداً على الأحداث، وحضروا مواقف يعرضها العمل، كشفوا ادعاء كتّاب السيناريو على الأموات. من بين من كذّبوا كتاب السيناريو رؤساء حكومات سابقون كتوني بلير (1997 - 2007)، وجون ميجور (1990 - 1997)، والمعلق مؤرخ الأسرة الملكية، ريتشارد فيتزويليامز، الذي انتقد انتقائية كتاب السيناريو بتجاهل الأدوار الوطنية للأميرة آن ولجدتها الملكة إليزابيث الأم (1900 - 2002)، ولمشاركة الأمراء في القتال في الحروب كضباط جيش.
الجدل يطرح السؤال: هل الفنون بكل أشكالها، للتثقيف أم للترفيه؟
«نتفليكس» مركبة من كلمتين «Net» الشبكة، و«Flix» التي عرفها قاموس صمويل جونسون بشعرة الفراء أو الشعرة الناعمة، تحويراً لفلاكس (الانتشار الدعائي)، وتطورت «فليكس» في الاستعمال اليومي في العقود الأخيرة لتعني توسيع عدد الأصدقاء، والتالف، وتفضيل الحياة المنزلية، ولم شمل الأسرة. الاستعمال الأخير -وهو في اللغة الديموطيقية (الشعبية المستخدمة)- هو ما يعنينا هنا عندما أسست الخدمة المدفوعة الأجر في كاليفورنيا في عام 1997 على يد الشريكين: ريد هيستينجز، ومارك راندولف (ناشر مجلة «عالم ماك» الإلكترونية) من خلال شبكة تربط مكتبة ضخمة من الأفلام السينمائية والبرامج والمسلسلات التلفزيونية، بحيث تصبح في متناول يد الأسر والمتفرج بتكلفة سنوية نصف قيمة رخصة الـ«بي بي سي».
الفنان يبدع أصلاً كموهبة للتعبير، وإبداعه تسجيل للحظة المعاصرة. نظرة المدرسة الواقعية العملية للفنون أكثر تركيباً وشمولاً، فالتساؤل عن دور الفن في المجتمع ظهر مع الآيديولوجيات الشمولية وتسييس وسائل التعبير لتوجيه الرأي العام؛ لدعم النظام الحاكم، لكنها دائماً تسحق الفرد.
الفن إبداع فردي، لكن تطور الإنتاج الفني، خاصة في مجالات جماعية، كالأوركسترا الموسيقية، وفنون الاستعراض كالمسرح والباليه والأوبرا والسينما، أدخل عاملين: العمل الجماعي كفريق، من مؤلف، وسيناريست، ومخرج، وممثلين، وموسيقى، وملابس وديكور، ومكياج، وإضاءة، وأضافت السينما والتلفزيون تكنولوجيا التصوير والمونتاج والإلكترونيات والأقمار الصناعية. العامل الآخر هو الاقتصاد أو السوق أو رأس المال؛ لأن طبيعة المجتمع الحديث تختلف عن العصور القديمة بتطور الفنون من تماثيل ورسومات في العصرين الإغريقي والروماني، أو رسامين فرديين من عصر النهضة، إلى القرنين الأخيرين الأكثر تعقيداً في الفنون الاستعراضية.
مثلاً التكلفة الأسبوعية لعرض مسرحية «البؤساء» لفيكتور هوغو (1802 - 1885) في لندن تتجاوز مائتي ألف دولار، بجانب أكثر من أربعة ملايين ونصف المليون دولار تكلفة الإنتاج نفسه، وهو تمويل ليس فقط خارج تساؤلات المقولة الأصلية عن دور الفنان؛ لأنه عمل اشترك فيه المئات، بل أيضاً عن الجانب المتعلق بدور الفن والثقافة في المجتمع.
بالنسبة للتكاليف الباهظة لإنتاج الفنون الاستعراضية المرئية، فإن المؤسسة الفنية أمام خيارات صعبة؛ شركة الإنتاج تقترض بضعة ملايين من البنوك والمستثمرين ولا بد من تسديدها؛ فمنتج وصاحب موسيقى «البؤساء»، أندرو للويد ويبر، قال لـ«فاينانشال تايمز» إن مبيعات التذاكر وحدها غير كافية لتغطية التكاليف الأسبوعية للعرض. أثمان التذاكر (أرخصها 53 وأعلاها 246 دولاراً) تتجاوز قدرة المواطن متوسط الدخل. الخيار الآخر تتولى الدولة (أي دافع الضرائب) دعم الفنون الاستعراضية، مما يعني قيوداً وضوابط على حرية التعبير، ودخول الحسابات السياسية في اختيار ما يعرض. الطريف أن هذه الحسابات تعيدنا إلى آلاف الأعوام قبل الميلاد كمصر القديمة مثلاً، فالذي لا يزال أمامنا من أعمال فنانين (نجهل أسماء أكثرهم)، تطلب تمويلاً هائلاً، عندما ارتبطت الفنون بالهندسة المعمارية في التماثيل الضخمة والمسلات والرسومات على جدران المعابد، ومعظمها إنشاءات الدولة، والفن يخبرنا عن الملوك الكبار في تاريخ العالم القديم كرمسيس الثاني (1303 - 1213 ق.م)، وتحتمس الثالث (1479 - 1425 ق.م)، والإسكندر الأكبر (356 - 323 ق.م).
لكن المجتمعات الديمقراطية المفتوحة لا تستسيغ أن تلعب الدولة دوراً رئيسياً في الإنتاج الفني، وهنا يتعاظم دور مؤسسات كـ«نتفليكس» أو «أمازون» أو «أبل»، التي توصل الأعمال الفنية والاستعراضات والأفلام، بل الأعمال التسجيلية التثقيفية التعليمية، من تاريخ مصر القديمة والمسرح الإغريقي، وإنجازات عصري النهضة والتنوير، والبيئة والتاريخ الطبيعي، وعجائب الجغرافيا والمعمار، إلى غرفة المعيشة في بيوت الطبقات الفقيرة (اشتراك نتفليكس يبلغ نحو عشرة دولارات في الشهر، بينما متوسط ثمن تذكرة السينما يبلغ نحو اثني عشر دولاراً).
الفن، في شكل الآثار المصرية القديمة، ما زال يخبر الحاضر عن الماضي، وهو ما تحاوله «نتفليكس» لكن بإعادة صياغتها للحاضر لمشاهدي أجيال المستقبل.
حسب آخر إحصائيات، يصل عدد المشتركين في «نتفليكس» إلى مئتين واثنين وعشرين مليون مشترك حول العالم؛ بواقع (خمسة وسبعين مليوناً في أميركا وكندا)، وثلاثة وسبعين مليوناً في أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا (منهم قرابة أربعة عشر مليوناً في بريطانيا)، وعدد مماثل في أميركا الجنوبية وآسيا والباسفيك مجتمعين (سبعة ملايين في أستراليا ونيوزيلندا، وستة ملايين في الهند). هذه الأرقام تبين أن قرابة نصف عدد المشتركين من البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية؛ مبيناً التأثير الضخم لعمل باللغة الإنجليزية على الملايين من المتفرجين.
رغم تحجج صناع المسلسل أنها «دراما» وليست تاريخاً واقعياً، فإن التجربة أثبتت أن تراكم تأثير الأعمال الدرامية، حتى ذات الطابع الترفيهي، يلعب دوراً رئيسياً في تغيير ذاكرة الأجيال ومعرفتهم بتاريخ بلادهم وأحداثه، خاصة الأجيال الشابة التي تفضل مصادر التعبير البصرية ووسائل التواصل المحمولة على الكتب والمراجع والذهاب للمكتبة، وفاتَها دروس التفكير النقدي التي ألغيت من معظم المناهج الدراسية.
في ندوتين بمناسبة توقيع كتابي الأخير (تاريخ الإسكندرية 1939 – 1960)، اكتشفت من أسئلة مصريين (أعمارهم بين العشرين والأربعين) جهلهم بأحداث عشتها بنفسي وموجودة في الوثائق وأرشيف الصحف المصرية. كانت الأحداث الحقيقية مفاجآت لهم؛ فمعلوماتهم عن الفترة تعكس ذاكرة جماعية بديلة مصدرها مئات من الأفلام والمسلسلات الدرامية والتمثيليات التلفزيونية، التي أعادت صياغة التاريخ بطريقة «نتفليكس» لمسلسل «التاج».