أمّا وقد أدخل محور الممانعة، بصغاره وكباره، البلاد في مرحلة غير محدّدة زمنيّاً من الشغور الرئاسي بسبب إصراره على الإقتراع بالورقة البيضاء، واستنكافه عن ترشيح شخصيّة مقابلة لترشيح قوى المعارضة الأخرى بغالبيتها للنائب ميشال معوّض؛ فإنّ الإمتناع عن التشاور من قبل بعض الكتل البرلمانيّة يوحي وكأنها تريد فعلاً إطالة أمد الفراغ بهدف إعادة بناء شعبيتها المتآكلة، لا بل المتهالكة، بفعل سياساتها الهوجاء والعوجاء خلال عهد الرئيس السابق ميشال عون.
بدل أن تذهب بعض القوى لإعادة إحياء سياسات التعطيل التي صارت تمتهنها، فلتعترف بأن طبيعة تركيبة المجلس النيابي الحالي لا تمنح الأكثريّة لفريق بعينه، ولو أن تحالف مجموعة من الفرقاء كفيل بتطيير النصاب المطلوب لانتخاب رئيس الجمهوريّة. لا مفر، في نهاية المطاف، من التشاور بين مختلف الكتل النيابيّة للخروج من المأزق الذي سيتفاقم مع مرور الوقت، لا سيّما على ضوء تنامي الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة.
المشكلة الحقيقيّة الآن تتمثل بأنّ فريق الممانعة (وفي صلبه «التيار الوطني الحرّ»)، لا يزال أمام معضلة التفاهم على مرشح موحّد وذلك بسبب الصراع القديم - الجديد بين التيّار نفسه وتيّار «المردة». وإذا كان الثاني يعتبر أنه سلّف الأول منذ سنوات بالموافقة على انتخاب العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة، فالأول يعتبر أنه غير ملزم أدبيّاً أو أخلاقيّاً تجاهه، وأن ليس هناك ما يدفعه لكي «يردّ الجميل».
قد لا تكون الظروف السياسيّة قد نضجت بما فيه الكفاية لتثمر في انتخاب رئيس جديد في هذه اللحظة بالذات. ولكن يحقّ للمواطن اللبناني الذي يئنّ من القهر والفقر والعذاب أن يتساءل: متى تنضج هذه الظروف؟ وهل أنها تنضج من تلقاء نفسها أم ثمّة جهود سياسيّة يفترض أن تُبذل لإنضاجها؟ وما هي المدّة الزمنيّة المتوقّعة لكي تنضج؟ هل هي بالأيام؟ بالأشهر؟ بالسنوات؟
لقد استطالت حالة الشغور الرئاسي في المرة الماضية عقب انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان في أيّار 2014، وامتدّت نحو عامين ونصف إلى أن انتخب العماد ميشال عون في تشرين الأول 2016. ثمّة من حرّك الاتصالات السياسيّة آنذاك وبنى المناخات المطلوبة لانتخابه إلى أن وُلدت تلك التسوية السيّئة!
المطلوب اليوم الإستفادة من فكرة تحريك الإتصالات مع التيقّظ بألا تفضي إلى نتائج كارثيّة مماثلة (طبعاً على افتراض أن يكون هناك من هو أسوأ مما كان). أما المنطلقات الأساسيّة التي يفترض بها أن تتحكّم بأي حراك أو نقاش سياسي على صلة بملف الرئاسة، فيجب أن تأخذ بالإعتبار تركيبة المجلس النيابي الجديد وتوازن القوى فيه بما يتيح إجراء الانتخابات الرئاسيّة في أسرع وقت ممكن.
أساساً، إنّ مجرّد فكرة إهدار المهل الدستوريّة المحددة لانتخاب الرئيس رغم الأحكام الواضحة التي ينص عليها الدستور لتلافي الوقوع في هذا المحظور هو بحدّ ذاته عمل غير مسؤول ينمّ عن مقارباتٍ مصلحيّة صرفة من قبل أطراف الصراع التي تسعى، من مواقعها المتناقضة لتحسين شروطها وتعزيز فرصها السياسيّة، بمعزل عن الانعكاسات المحتملة لذلك على واقع البلد الذي تتوالى فصول انهياراته، من أسقف المدارس على رؤوس الطلاب إلى التردّي المعيشي الذي يمسّ بكرامة المواطن قبل أن يمسّ بلقمة عيشه.
الأسوأ من كل ذلك أنّ التعطيل يأتي من القوى التي خاضت المعارك السياسيّة تلو المعارك (ولو كانت فارغة وتافهة) رافعة شعارات كرامة الرئاسة الأولى وصلاحيّاتها وشراكتها الكاملة في التأليف الحكومي وغير التأليف الحكومي، بينما اليوم تقف حجر عثرة أمام أي تفاهم محتمل.
ألم يملّوا من سياسات التعطيل يا ترى؟