Advertise here

ملامح تفاهمات دولية جديدة تلوحُ في الأُفق

28 تشرين الأول 2022 09:17:26

رغم التعقيدات الكبيرة التي تطفو على سطح مستنقع العلاقات الدولية الهائج؛ يبقى نصيب التفاهمات قائماً بين الدول الكبرى على اختلافها. وتطور الأحداث باتجاه الأسوأ ليس خياراً مُلزماً، ذلك أن المصالح التجارية والسياسية، كما المساعي التوفيقية التي تبذل في أكثر من اتجاه؛ لها قدرة كبيرة على لجم التوتر، أو عدم إيصال هذا التوتر الى الحدود المُخيفة على أقل تقدير.

 

استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة لحظت مقاربة مختلفة عن المقاربة التي كانت معتمدة في السابق، وهي ركزت على أهمية استقرار الشرق الأوسط، وعلى اعتبار الصين مصدر الخطر الأكبر على الولايات المتحدة الأميركية في السنوات العشر القادمة. ومن هذه العناوين يمكن الولوج الى مساحة جديدة قد يكون أسهل معها إجراء تسويات في أماكن مختلفة من العالم، ومنها في الشرق الأوسط على وجه التحديد، لأن السياسة الأميركية السابقة هي التي فتحت ثغرات واسعة تسللت منها قوى الفوضى والإرهاب الى أكثر من مكان، ووضعت المنطقة برمتها على صفيحٍ ساخنٍ ومُضطرب.

 

بلوغ التوتر في أوكرانيا مستويات عالية مُقلقة، لا يعني حكماُ أن التواصل مستبعد كلياً بين الولايات المتحدة وروسيا. فهناك تقييم جديد عند بعض مراكز الدراسات الاستراتيجية، يشير الى توافر مناخ لعقد تفاهمات بين الدولتين الكبيرتين قد تؤدي الى إيقاف الحرب الدائرة، ويتم بموجبها توزيع قواعد الاشتباك البارد على أسسٍ حديثة، تأخذ في الاعتبار إبقاء الفضاء الأوروبي تحت تأثير الضغوط الأمنية والاقتصادية، وتفتح للقوتين الجبارتين قنوات جديدة تسمح بالتعاون من خلف الستار من أجل ضبط التمرُّد الذي خرج عن السيطرة على الساحتين الصينية والأوروبية. والاتصال الهاتفي الأخير الذي جرى بين وزير الدفاع الروسي ووزير الدفاع الأميركي بعد انقطاعٍ طويل، قد يكون جزءاً من حلقة التبريد التي بدأت تضبط حالة السخونة، أو أنه محاولة كي لا يذهب التوتر الى حلقات أكثر صعوبة.

 

العلاقات الصينية الأوروبية لم تتأثر كثيراً بالحرب الأوكرانية، والتبادل التجاري بين الصين وألمانيا على وجه الخصوص زاد بوتيرة ملحوظة، وهو وصل الى ما يزيد على 235 مليار دولار، وتتمسَّك الدولتان الصناعيتان بمبدأ التعاون بما يخدم مصالحهما ويقفل الباب على أي توتر قد يؤدي الى خسارة ألمانيا 8 في المئة من مجموع صادراتها التي تصل الى الصين – خصوصاً في قطاع صناعة السيارات – كما أن الصين تخشى من أي ردود فعل راديكالية قد تفقدها 12 في المئة من مجمل الواردات الألمانية.

 

والصين التي جددت للرئيس شي جينبينغ لولاية ثالثة؛ أكدت في توصيات مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير سياسة الانفتاح، وهي تتجنب اعتبارها حليفاً عسكرياً لروسيا في الحرب الأخيرة في أوكرانيا، وتكتفي بتأكيد علاقاتها المميزة مع موسكو، بما لا يؤثر في تبادلاتها التجارية مع الدول الغربية. وبعض الشركات الصينية قلَّصت بالفعل من نشاطها في روسيا تجنباً لوصل العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا إليها.

 

عقيدة الأمن القومي الأميركي الجديدة غامضة في بعض جوانبها، ولكنها تختلف ببعض الزوايا مع التوجهات التي اعتمدتها قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة في مدريد. وقد استنتج المتابعون من هذا الاختلاف، إبقاء واشنطن على خيط رفيع من التواصل، قد يسمح بالمستقبل في الوصول الى هدنة مع موسكو، تعيد شكلاً من أشكال الحرب الباردة، ولكنها تهدف بالمحصلة الى محاصرة التمرُّد الذي قد يحصل على هاتين القوتين من جهات دولية أخرى، وتحديداً من القوى التي تشكل ثقلاً اقتصادياً وتحدياً تكنولوجياً للدولتين الكبيرتين. والتنسيق الفرنسي – الألماني المتجدِّد يركز على فرض هامش من الاستقلالية الأوروبية، وفقاً لما ذكرته بعض وسائل الإعلام.

 

الشرق الأوسط قد يتأثر بالتوجهات الجديدة التي لم تظهر بكامل ملامحها بعد، وما جرى في العراق من تفاهمات أدت الى انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس لتشكيل الحكومة؛ قد يكون حلقة في سياق المقاربات الموعودة، وترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل لم يكن ليحصل بهذا الهدوء من دون توافقات دولية، واللافت أن روسيا المتضررة من نتيجة الترسيم على مستقبل سوق الغاز؛ لم تُحرِّك ساكناً، ولم تعلِّق على الموضوع لا من قريب ولا من بعيد.

 

تركيز الولايات المتحدة على المارد الصيني كخطر مستقبلي؛ يخفي نوايا بإمكان التفاهم مع روسيا في المستقبل، وتسخين الأوضاع في أوكرانيا كما هو عليه الحال اليوم، لا يعني قفل الباب على تفاهمات قد تحصل في المستقبل القريب.

 

ينصح خبراء في مراكز دراسات استراتيجية متخصصة بعدم المبالغة في تفسير التوجهات الجديدة التي وضعتها وثيقة الأمن القومي الأميركي، لكن الرئيس الأميركي جو بايدن لم ينكر في مقدمة الوثيقة، تبنيه خطة تضع مداميك واضحة لمشروع بناء مستقبل للنظام الدولي، لن يكون عرضة لأهواء أولئك الذين لا يشاركوننا رؤيتنا كما قال.