لم ينعم اللّبنانيون بالحياة الكريمة التي لطالما أملوا بها منذ زمن، وهم كانوا على دراية بأن عهد ميشال عون لن يكون خشبة الخلاص نسبةً للتجارب السابقة التي خاضوها معه حينما كان قائداً للجيش ورئيساً للتيار الوطني الحر. فمنذ بداية "العهد القوّي" وهم يستيقظون يومياً على كوارثَ جديدةٍ، في حين كان لا همَّ لأصحاب هذا العهد سوى تأمين مستقبلهم السياسي، وضمان تواجدهم في السلطة حتّى بعد انتهاء مدّة ولايتهم، حفاظاً على نفوذهم الذي سخّروا المواقع لأجله طيلة السنوات فترة العهد.
وعلى مدى 6 سنوات، واجه لبنان مآس وصعوبات، عكّرت استقراره وحرمت أبناءه من العيش الكريم، كما حملّتهم أعباء أزمة إقتصادية صُنّفت بين الأسوأ في التاريخ. ولا شك أن العهد وحلفاءه يتحمّلون جزءاً كبيراً من مسؤولية ما حصل، وذلك انعكس تراجعاً في شعبيّة التيار الوطني الحرّ، وتراجع ثقله البرلماني نتيجة الإخفاقات في إدارة الوزارات الموكلة إليه خاصة وزارة الطاقة وتحديداً ملف الكهرباء.
إلّا أنَّ روّاد "عهد الظلام" لا يعترفون بفشلهم، بل هم مصممون على مقولة "ما خلّونا" لترقيع فجوات سوء الإدارة وممارسة الفساد والسرقات على أكثر من صعيد، وأكثر من ذلك يسعون وبالوسائل المشروعة وغير المشروعة كافة إلى استقطاب جمهورهم من جديد، بعد استقالات عدّة من داخل "التيار" والتي أربكت الموالين لهم بفعل الانقسامات الداخلية وكشف المستور من قبل النواّب المستقيلين، في ظلّ تباهي البعض المستمر بالإنجازات الوهمية التي حققها العهد طيلة فترة حكمه.
وطبع العهد العديد من الأحداث التي دلّت على سوء الإدارة وانغماس أركانه بالفساد، منها:
العقوبات الأميركية على باسيل
في السياق، وبفعل اجتهاد رئيس "التيار" جبران باسيل واتباعه في مزاولة "الفساد" في مؤسسات الدولة كافة، فُرضت عليه عقوباتٌ أميركية نتيجة ظلوعه بصفقات وسمسرات وثّقتها الإدارة الأميركية بقرارها، جاءت على خلفية ممارسة الأخير للفساد.
حكومة الرئيس الحريري الأولى في عهد عون
بعدما تمّ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، كلّف الرئيس سعد الحريري بتشكيل حكومة بتاريخ 3 تشرين الثاني 2016، وبعد مشاورات واجتماعات عدّة، أعلن عن ولادتها بعد 46 يوماً، بتاريخ 18 كانون الأول 2016، إلّا أنَّها استقالت بتاريخ 22 أيار 2018، بفعل القانون، إثر إجراء الانتخابات النيابية، واستمرت على مدى 255 يوماً بتصريف الأعمال.
حكومة الرئيس الحريري الثانية
كُلّف بتأليفها بتاريخ 24 أيار 2018، واحتاج إلى 253 يوماً لتشكيلها في 31 كانون الثاني 2019، وتأخر التأليف بسبب المناكفات السياسية والمطالبات بحصص وزارية وازنة. وفي عهدها قامت انتفاضة 17 تشرين الأول، فاستقالت بتاريخ 29 تشرين الأول من العام نفسه - أي بعد 13 يوماً من اندلاع الانتفاضة، وبقيت 75 يوماً وهي تُصرف الأعمال.
حكومة حسان دياب
على وقع انتفاضة 17 تشرين الأول، ومع تفاقم الأزمة الإقتصادية في البلد، كُلّف حسان دياب بتشكيل حكومة في 19 كانون الأول 2019، واستغرقت فترة التشكيل 34 يوماً، إلى أن أعلن عن ولادتها بتاريخ 21 كانون الثاني 2020، واستقالت بعد 200 يوما، بتاريخ 10 آب 2020، إثر تداعيات كارثة انفجار مرفأ بيروت. كانت الأطول في تصريف الأعمال على مدى 366 يوماً، وذلك بعد تسمية أديب والحريري لتشكيل حكومة جديدة وعجزهما عن التأليف لرفض عون، ومن خلفه باسيل، لحكومات لا سلطة لهم فيها.
ويُذكر أيضاً رفض باسيل بشكل قاطع ترؤس الحريري لحكومة، ورفض كل تشكيلة تتقدّم، ومعاملة رئيس تيار المستقبل بدونية، من خلال إرسال تشكيلات حكومية من قصر بعبدا إلى بيت الوسط عبر درّاج.
تسمية أديب
بعد استقالة دياب، كان ثمّة عمل فرنسي حثيث لتشكيل حكومة إصلاحية مؤلفة من اختصاصيين لإنقاذ البلد من الأزمة الكبيرة التي يتخبّط فيها، فتم طرح اسم السفير اللبناني في ألمانيا مصطفى أديب الذي سُمّي في ما بعد لتأليف حكومة في 31-8-2020، وحصل على دعم العديد من القوى السياسية، إلّا أن استمرار العهد على المنوال نفسه أطاح بالفرصة، فرفض أديب تشكيل حكومة في ظل هذه الأجواء السياسية، واعتذر.
حكومة ميقاتي
بعد أديب، عاد الحريري وطرح نفسه كمرشّح طبيعي لرئسة الحكومة، لكنه اعتذر لعدم قبول عون بأي تشكيلة يقدّمها، وعلى الإثر تمت تسمية الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة. تمكن الأخير من تشكيل الحكومة الجديدة خلال 47 يوماً من تكليفه بتاريخ 26 تموز 2021، وتم الإعلان عن ولادتها بتاريخ 10 أيلول 2021.
ومع انقضاء شهر على الانتخابات النيابية، وبعد أيام من الاستشارات النيابية الملزمة والتي أسفرت عن تسمية ميقاتي تكليف الحكومة بعد حصوله على 72 صوتاً، فإنَّ جهوداً كثيفة وتدّخلات عدّة عرقلت التشكيل، وبقي الفراغ سيّد الموقف.
هذا في الشقّ السياسي، أمّا على الصعيد الاقتصادي فحدّث ولا حرج، إذ إنَّ البلد واجه أقسى أزمةٍ اقتصاديةٍ في عهد رئيس الجمهورية ميشال عون. من انهيار العملة وتراجع القدرة الشرائية، مروراً بالعتمة الشاملة وانقطاع التيار الكهربائي، وصولاً إلى تفكّك مؤسسات الدولة وتراجع انتاجيتها.
العتمة
انقطع التيار الكهربائي بشكل كامل عن الاراضي اللبنانية كافة، وبعد وعد باسيل منذ استلامه وزارة الطاقة بتوفير الكهرباء على مدار الـ24 ساعة، وجد اللّبنانيون أنفسهم أمام عتمةٍ شاملةٍ، وذلك بسبب عدم إبرام الإتفاقيات التي لا تتوافق ومصالحه، بالإضافة إلى تعذّر وصول الفيول جرّاء تخلّف لبنان عن سداد ديونه، وبذلك لم يفِ باسيل بوعده للمواطنين ليكمل مسار السرقة الذي عاهده منذ البداية.
انتفاضة 17 تشرين الأول 2019
اعتراضاً على الضرائب المخططة على البنزين والتبغ والمكالمات عبر الإنترنت على تطبيقات عبر زيادة 6$ على واتساب، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردي المتمثل بالركود، البطالة، الفساد المستشري في القطاع العام تحديداً قطاع الكهرباء، وحرمان المواطنين من أدنى حقوقهم عبر اتباع سياسات خاطئة، اندلعت سلسلة احتجاجات في عدد من المناطق اللبنانية، من خلال اقامة تجمعات في الساحات، اشعال الدواليب على الطرقات وتسكيرها، واستمرّت هذه الاحتجاجات 11 أسبوعاً، من 17 تشرين الأول 2019 وحتّى 29 كانون الأول، وعادت أنّها استؤنفت في 14 كانون الثاني 2020، شجباً على فشل الرئيس المكلّف آنذاك حسان دياب في تشكيل حكومة إنقاذية.
يذكر أنَّ إشكالاتٍ عدّة وفي مختلف المناطق، قد نتجت عن هذه الانتفاضة خصوصاً مع القوى الأمنية، وقوى مكافحة الشغب، في ظلّ التدخلات لتهدئة الأوضاع ومنع التخريب، ووقع على غثرها عدد من الضحايا.
إلّا أنَّ هذه الاحتجاجات انطفأت، بفعل الانقسامات الموجودة بين المتظاهرين، غياب التنظيم والخطّة الواضحة، كما واختلاف المطالب إذ لم يتخذ اللبنانيون في ذلك الوقت موقفاً موحّداً، وبالتالي لم تحقق تحركاتهم الطموح والآمال التي رسموها.
ارتفاع كبير في سعر دولار السوق السوداء
وفي الإطار، واستكمالاً للنكبة الإقتصادية، تفاجأ اللّبنانيون بـ "قفزة" جنونية للدولار بعد عرقلة تشكيل الحكومة، ليكون دافعاً أمام إلهاء النّاس عن انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 احتجاجاً على الوضع الإقتصادي والمعيشي الصعب، بعد الحديث عن زيادة خدمة "الواتساب" 6 دولارات، ما دفع المواطنون إلى افتراش الساحات وإقفال الطرقات كأداة ضغط على الدولة اللبنانية لإعادة النظر بأوضاعهم والعمل على تحسينها ولكن "لا حياة لمن تنادي"، فالأزمة تفاقمت من "الواتساب" إلى الارتفاع غير المألوف لأسعار المحروقات بفعل تأثير سعر الدولار لترتفع بذلك أسعار السلع الغذائية على أنواعها، وهنا باتَ المواطنُ أمام همومٍ جديةٍ لناحية تأمين قوته اليومي، مع تدني الحدّ الأدنى للأجور، فتلاشت الإنتفاضة شيئاً فشيئاً، وتوالت الأزمات على كاهل اللبنانيين وخصوصاً الشباب ممّا دفعهم للهجرةٍ كبابٍ للخلاص، ليفقد لبنان عنصر الشباب الحيوي والفعّال.
طوابير أمام الأفران ومحطات الوقود
كان للإرتفاع الكبير في سعر الدولار تداعياتٍ سلبية على أسعار المحروقات والسلع الغذائية، إذ "حلّقت" أسعار المواد الأساسية في ظلّ احتكار التجّار لها، ممّا جعل اللبنانيون يتهافتون على المخابز لشراء الخبز خشيةً من أزمة جديدة، تحت تهديد أصحاب النقابات بنفاذ الطحين نتيجة عدم توفر القمح لدى المطاحن، واقفال العديد من الأفران في معظم المناطق.
أمّا في ما يتعلّق بأسعار المحروقات، فقد شهدت ارتفاعاً غير مسبوقاً منذ بداية الأزمة، علماً أنَّ البلد يواجه نقصاً في المادة، تحت وطأة الحرب بين روسيا وأوكرانيا، الأمر الذي أدّى إلى شح في مادة البنزين على وجه الخصوص، فاصطف المواطنون أمام المحطات، في حين اضطر البعض منهم إلى النوم في سياراتهم للحصول على "تنكة" في ظلّ الاحتكار الكبير الذي مارسه أصحاب المحطات في تلك الفترة، من ناحية تخزين المادة لحين صدور جدول أسعار مرفقاً بزيادة متوّقعة وبيعها وفقاً لذلك.
بالإضافة إلى مادة البنزين، يشهد اللبنانيون حتّى اليوم، أزمة متمثلة بتأمين مادة المازوت للتدفئة في الشتاء، إذ ارتفع سعر البرميل بفعل العوامل المؤثرة ويتمّ بيعه في العديد من المناطق بالدولار، وبذلك ومع انتهاء العهد الفاشل لازال اللبنانيون يتحملّون نتيجة الفساد والسياسات الخاطئة على الصعد كافة.
التخلف عن سداد اليوروبوندز
قد يكون تخلّف حكومة دياب عن سداد مستحقات اليوروبوندز الكارثة المالية الأكبر في تاريخ الولاية، إذ ورغم كل الأزمات السابقة التي عصفت بتاريخ لبنان، لم يتخلّف مرةً عن دفع ديونه. التخلّف عن الفع أدّى إلى تراجع تصنيف لبنان الائتماني عالمياً، وتردّد المجتمع الدول في مساعدة لبنان مالياً من جديد خوفاً من عدم سداده لمستحقاتهم.
بعد ذلك، دخلت البلاد في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل الاتفاق على برنامج إصلاحي تموّل على إثره المؤسسة الدولية لبنان وتضعه على طريق التعافي، لكن الحكومات المتعاقبة، منذ حكومة دياب، لم تضع خطة تعافٍ اقتصادية واضحة واصلاحية، بل كانت كلها خطط شكلية لم تُطبّق.
إن المفاوضات مستمرة حتى الحين، ولكن السلطتين التشريعية والتنفيذية لم تُقرّان ما طلبة صندوق النقد من قوانين إصلاحية بعد، وبالتالي المساعدات لا زالت معلّقة.
انفجار الرابع من آب
وفي الحديث عن نكبات "العهد"، لا ننسى الانفجار الكارثي، في الرابع من آب 2020، والذي أودى بحياة الآلاف من الضحايا، بعد اشتعال آلاف الأطنان من نيترات الأمونيوم بسبب حريق في المستودع الذي كانت مُخزنة فيه، والتي لازالت حتّى الساعة المعلومات متضاربة حول مصدر قدومها إلى لبنان. هذه الأرواح البريئة التي لا ذنب لها سوى أنها قد خلقت في لبنان، وعاشت عهد عون المنكوب، ومع وعود الأخير بكشف الحقيقة وتحقيق العدالة خلال خمسة أيام من تاريخ وقوع الجريمة، فإنّه اليوم ومع مرور سنتين على الحادثة الأليمة ومشارفة انتهاء ولايته، لازالَ التحقيقُ في عرقلةٍ تامةٍ، ومرهونٍ بيد السلطة السياسية الحاكمة في ظلّ المماطلة والعجز عن بلوغ الحقيقة التي حتّى اليوم لن ينكفَ أهالي الضحايا عن المطالبة بها والسعي وراءَ كشفها.
ترسيم الحدود
في عهد عون، كان ثمّة بارقة أمل وحيدة تمثّلت بالاتفاق على ترسيم الحدود الجنوبية، على ان يستطيع لبنان الاستفادة من ثرواته بعيدا عن السمسرات والمحاصصة، والعمل سريعا على انشاء الشركة الوطنية والصندوق السيادي.
إذاً، إنّه عهد الكوارث بكلّ المقاييس، عهد الظلم والفقر والجوع، عهد البطالة والمحسوبيات والمصالح التي وبعد كلّ المجازر التي تسبّبت في حرمان اللبنانيين من أدنى حقوقهم الحياتية، لازال روّاده يستخدمون نفوذهم لضمان مستقبل تيارهم لقترة ما بعد مغادرة عون قصر بعبدا، على أمل أن يولد لبنان جديد، مزدهر سياسياً واقتصادياً بعد انتهاء عهد "الشيطان".